![]() |
الوضع الأمني بالقلعة الكبرى في خريف سنة 1934قراءة لوثيقة تاريخيّة |
مقدمــــــة:
منذ سنة 1881 أرست السلطات الفرنسيّة بتونس نظاما إداريا فريدا يختلف عن نظام الاستعمار المباشر. ولئن حكمت عدّة ظروف دوليّة آنذاك في جنوح فرنسا إلى هذا النظام بالذات، فإنّها سرعان ما طوّرته بعد اتفاقية المرسى المبرمة في 08 جوان 1883 بين المقيم العام الفرنسي بتونس، “بول كمبون” وعلي باي (1882-1902)، إلى حكم مباشر، تمّت فيه مراعاة بعض مظاهر الاستقلاليّة، خاصة في المسائل التي تمسّ مباشرة السكّان التونسيّين، مثل الشعائر الدينيّة والعدل والأوقاف والأمن…، فيما أخضعت سائر القطاعات الأخرى للإدارة الفرنسية دون سواها.
وقد أكّدت المصادر التاريخيّة والوثائق الأرشيفيّة، أنّ سلطات الحماية تعمّدت في البداية عدم المساس من أشكال السلطة الممارسة على السكّان، حيث ظلّت تستند إلى نفس الهياكل الأهليّة القائمة قبل الحماية بنفس أساليب الإخضاع تقريبا. لذلك سعت إلى المحافظة على هيكلة النظام التقّليدي مع السيطرة على دواليب الدولة مركزيّا وجهويّا، وذلك بفعل إرساء نظام مزدوج تَقَاسَمَ فيه السلطة كل من المقيم العام والكاتب العام للحكومة.
ومن هذا المنطلق حافظت إدارة الحماية على السلطة التنفيذيّة المحليّة الأهليّة القائمة، بل سعت إلى تدعيمها للحفاظ على الأمن بالإيّالة، اعتمادا على نفس أساليب السّلطة الممارسة على الأهالي. فالقائد أو العامل هو الممثّل الوحيد للسّلطة المركزيّة للقيادات بالإيّالة التونسيّة وتبعا لذلك فهو يتمتّع بنفوذ واسع في الجهات التي يديرها، وكان المسؤول الأوّل على استتباب الأمن بمجال مرجع نظره، يساعده في مهامّه “خْلِيفَة” يختاره بنفسه لنيابته عند الضّرورة. كما يساعده أيضا كواهي (جمع كاهية) ومشايخ التراب (جمع شيخ)، يشرف كلّ منهم على مدينة أو قرية أو حارة أو “دوّار” أو فريق…
ومنذ إحداث فرنسا لإدارة الأمن العام بالإيّالة التونسية في 17 أفريل1897 أصبحت هذه الإدارة تشرف على مراكز الشرطة في كامل أنحاء البلاد. وكانت صلاحيّات رجل الأمن أو حافظ الأمن العام التابع لجهاز الشرطة الإدارية واسعة ولا حدّ لها. فحيثما وجد فهو يمثّل سلطة القانون والدولة الحامية، خاصّة إذا كان حاملا للزّيّ النّظامي. وهو كذلك مطالب بفرض النّظام وحفظ الأمن حيثما حلّ وفي كلّ الأوقات والتدخّل كلما اقتضى الأمر ذلك: عند حصول معركة أو شِجَارٍ أو حادث مرور أو مشاحنة بين تاجر وحريف أو ملاحقة منحرف أو متّهم أو مشتبه فيه أو إلقاء القبض على مفتّش عنه أو رفع المخالفات…، وغيرها من المهام.
وإضافة إلى هياكل إدارة الأمن كالتفقدية ورؤساء المناطق…، اضطلعت السلطتين المحلية والجهوية بدور مراقبة أعوان الأمن ورفع تقارير حول الحالة الأمنية بالجهة وخاصة حول تجاوزات الأعوان وتقصيرهم في أداء الواجب…، عن قصد أو عن غير قصد. وكان يحتفظ بأرشيف هذه الإدارة بنظير وأحيانا أكثر من جميع التقارير والمراسلات الواردة على إدارة الأمن من كامل أنحاء المملكة أو الصادرة عنها. وعلى إثر تونسة هذه الإدارة وسائر الإدارات العمومية الفرنسية في مطلع الاستقلال، تمّ ترحيل معظم أرشيفاتها إلى مؤسّسة الأرشيف الوطني.
وفي هذا الإطار تتنزّل الوثيقة الأرشيفية التي نتولى دراستها في هذه الورقة.
طبيعة الوثيقة:
توجد الوثيقة موضوع الدراسة بمؤسّسة الأرشيف الوطني التونسي: السلسلة “S.A” ، صندوق عدد 164، ملفّ عدد 26 بعنوان: ” حالة الأمن بمدينة القلعة الكبرى “.
وردت الوثيقة في شكل مراسلة رسمية تحت عدد: 1506 بتاريخ 17 نوفمبر 1934 بحوالي صفحة كُتبت بالخطّ المغربي وبالحبر الأسود، وجّهها كاهية القلعة الكبرى أحمد بن رمضان إلى الكاتب العام للحكومة بالمملكة التونسيّة “Le Secrétaire Général du Gouvernement Tunisien” “روني تياري “René Thierry” كما وجّه نسخة منها إلى قايد (عامل) سوسة عبد الجليل الزاوش (1917-1934) والى المراقب المدني بسوسة “أندري قرنيك “Graignic André”.
الإطار المكاني والزماني للوثيقة:
* الإطار المكاني:
تدور أحداث الوثيقة بالقلعة الكبرى. وهي من أكبر قرى جهة الساحل التونسي تقع شمال غربي مدينة سوسة، تمتدّ إلى حدود سيدي بوعلي والنفيضة شمالا وأكّودة شرقا وكندار غربا
والقلعة الصغرى جنوبا. ولئن كانت تعتمد في اقتصادها على الفلاحة وتحديدا غراسة الزياتين وتربية الماشية…، فإنّ عوامل كثيرة ومتعدّدة ساهمت في “(…) تحديثها نذكر من بينها التعليم والخدمة العسكريّة وكل عمليّات التعصير كإدخال التقنيات الحديثة في الاتصال والتنقل وغيرها(…) “.
* الإطار الزماني:
توافق أحداث الوثيقة خريف سنة 1934، أي أوج الأزمة الاقتصادية والاجتماعية بالبلاد التونسية التي اندلعت بالولايات المتحدة لتنتقل إلى فرنسا في أواخر سنة 1931 ومنها إلى مستعمراتها ومن بينها تونس بداية من سنة 1932. فقد بيّنت العديد من الدراسات التاريخيّة المهتمة بالتاريخ المعاصر لتونس أنّ البلاد عاشت خلال الثلاثينات تحت وطأة أزمة محليّة اجتاحت القطاع الفلاحي، من ذلك مثلا انخفض سعر القنطار من القمح إلى 96 فرنك سنة 1933 بعد أن كان 134 فرنك عام 1931 وتفاقمت الأزمة بحلول الأزمة العصريّة حيث تراجع تصدير المواد المنجمية والفلاحية كالفسفاط والحديد وزيت الزيتون والخمور…
وقد أثّرت هاتين الأزمتين اللتين شملت كامل أنحاء البلاد على الاقتصاد وعلى ظروف عيش كافة فئات المجتمع، لا سيّما صغار الفلاحين الذّين تضرّروا نتيجة انخفاض أسعار المواد الفلاحيّة الذين عجزوا عن تسديد الديون وبالتالي التفريط في ملكية أراضيهم أو مصادرتها من قبل المرابين اليهود خاصة بجهة الساحل التونسي وفي مقدمتها بالفلعة الكبرى… والقرى المجاورة.
كما تفاقمت ظاهرة البطالة شملت سكان المدن والقرى والأرياف على حد سواء. فعلى سبيل المثال بلغ عدد العاطلين عن العمل بالعاصمة وحدها قرابة 30 ألف عاطل في أكتوبر 1935.
كما تراجعت الطاقة الشرائية وانتشرت المجاعة والأوبئة ومات الكثير من التونسيّين بالعديد من مناطق البلاد خاصّة بتونس وضواحيها وبجهات قرمبالية والوطن القبلي والساحل…
وقد ساهم كلّ ذلك في تصاعد الغضب الاجتماعي خاصة في قرى الساحل التي يعتمد اقتصادها على انتاج وتصدير زيت الزيتون والنسيج بالأساس على غرار القلعة الكبرى وقصر هلال… وهو ما يفسّر احتضان هذه الأخيرة لمؤتمر الحزب الدستوري في 2 مارس 1934.
كما نشطت ظاهرة نهب المخابز بكل من تونس العاصمة والقيروان سوسة… سنة 1934 وعمّت نقمة الأهالي على السلطات الاستعمارية. وتظاهر الشوّاشون في شهر مارس 1934 لحمل الحكومة على حماية حقوقهم من المنافسة الأجنبيّة.
وقد أنتجت هذه الظرفيّة مناخا ملائما لتحولات اجتماعية وسياسية جديدة، استغلّها قادة الحزب الحر الدستوري الجديد لتكثيف دعايته الحزبية في صفوف الفئات الشعبية والمهمّشة بالجهات المتضررة وفي مقدمتها مدن وقرى القلعة الكبرى وفي مقدمتها القلعة الكبرى.
مضمون الوثيقة:
انحصر موضوع المراسلة في تشكّي كاهية القلعة الكبرى من عدم قدرة مركز الشرطة بالقلعة الكبرى القيام بالواجب المناط بعهدته نظرا لقلّة الامكانيات البشريّة: ” (…) لما للقلعة الكبرى ودائرتها من الأهمية العمرانية والاجتماعية والفلاحية، وما لدائرة منطقة محافظتها من الأقسام… (…) “.
وفي هذا الإطار يجدر التذكير بأنّ القلعة الكبرى تعدّ من أهم قرى وبَلْدَات جهة الساحل. وهي مقرّ للسلطة المحلية “كْهَايَة” ومركز بلديّة منذ 19 فيفـــــري 1921، وهي من أكثر قرى الساحل سكّانا.
وحسب الإحصائيات الرسمية انتقل عدد سكان القلعة الكبرى من حوالي 10.000 ساكن في بداية القرن العشرين إلى أكثر من 14.000 ساكن خلال منتصف الثلاثينات. وقد استوجب ذلك حضور عدد كافٍ من أعوان ومحافظي الأمن العام يتماشى وارتفاع عدد السكّان في كامل أنحاء الدائرة.
وبالتالي وحسب ما ورد في مراسلة الكاهية فإنّ: ” (…) عونا واحدا مع بريقادي غير كاف لمثل دائرة القلعة الكبرى. فهذه البلدة وحدها تحتاج احتياجا أكيدا لعونَيْنِ على الأقل دون البريقادي “. وهذا الإخلال جعل من البلدة مهملة أمنيّا خاصة في الليل باعتبارها أصبحت “مرتعا للسكارى والميسر والمشاجرات… “.
فقد أكدّت العديد من الوثائق والمصادر التاريخيّة أنّ ظاهرة الشجار وشرب الخمور واستهلاك المخدّرات وترويجها كانت منتشرة بكيفيّة كبيرة بالإيّالة التونسيّة خلال فترة الثلاثينات. وفي هذا الإطار نشر المناضل محمود الماطري مقالا في جريدة “لاكسيون تونزيان” “Tunisienne L’Action ” في شهر فيفري 1933 ينبّه فيه إلى تكاثر آفة التكروري وما خلّفته من ضحايا ومختبلين ومهمّشين و”البانديّة”… كما نشرت له نفس الصّحيفة بتاريخ 29 مارس 1933 مقالا آخر حول انتشار التكروري في منطقة الساحل وما خلفته من سلبيات اجتماعية أدّت إلى: ” (…) تكاثر المهمّشين والمدمنين بانتشار أنواع مثل الكوكيين والهيروين والبوري وغيرها بين الكثير من الشبّان التونسيين فأصابهم داؤها، وتغلغلت فيهم سمومها (…) “. وقد جعل هذا الوضع بعض الصّحف تنبّه من خطورة تلك الظّاهرة المستفحلة في المجتمع وتطلق صيحات فزع، لعلّها تساهم في معالجتها وإيقاف بلواها، حاثّة سلطات الحماية على إيلاء الظّاهرة ما تستحقّه من عناية، منتقدة تقصير أعوان جهاز الشرطة في مكافحة ظاهرة السكارى والمهمّشين والشجارات بين “الصعاليك”…
لاشك أنّ مدينة القلعة الكبرى شأنها شأن بقية مدن وقرى البلاد كانت تعاني من تلك الآفات الاجتماعية نتيجة كل التغييرات الاجتماعية سالفة الذكر وظهور البؤس والتهميش جرّاء الأزمة الاقتصادية للثلاثينات.
ولمقاومة الأوضاع المتردية ومكافحة تلك الشرور المنتشرة بالقرية، ألحّ كاهية القلعة الكبرى على الكاتب العام للحكومة بضرورة ” (…) زيادة عونٍ على الأقلّ في محافظة أمن القلعة الكبرى ليبقى هذا المُزاد رابضا بها ومراقبا للحالة العامة وقت مغيب البريقادي والعون الآخر أحد مراكز الدائرة في أيّ وقت كان(..)”.
كما اقترح الكاهية نقلة محمّد بن حمودة عون البوليس الأهلي بالقلعة الكبرى إلى جهة أخرى وتعويضه بآخر شيمته الاستقامة والنشاط والانقطاع للعمل المنوط بعهدته “باعتبار أنّ العون المذكور معروف بالتقصير في أداء الواجب عل حد قول الكاهية: “(…) وظهر عليه تراخٍ في نشاطه لازمه لكبر سنّه، فيما يظهر عليه ولم يبق وجوده صالحا لمثل القلعة الكبرى ودائرتها التي تحتاج بلا شك إلى عمل مستمرّ ونشاط متزامن ونباهة متجددة (…) “.
وبعد قراءة نقديّة ومتأنية لمضمون الوثيقة يمكن للمؤرّخ الخروج بالاستنتاجات التالية:
– النقص الكبير في الإطارات الأمنيّة والإمكانيات المادية وخاصّة البشرية بدائرة الشرطة بالقلعة الكبرى. ومن المفارقات التي نسجّلها في هذا السياق أنّ سلط الحماية عملت على الزيادة في عدد أعوان جهاز الشرطة حيث ارتفع عددها بين سنة 1926 وسنة 1941 من 942 فردا (منهم 52 إطار شرطة و106 إطارا متوسطا و784 عون شرطة) إلى حوالي 1927 فردا فرنسيّا وتونسيّا (78 منهم من الإطارات و1849 عون شرطة) بحكم حاجة سلطات الحماية لقوّات الشرطة قصد تدعيم مشروعها الاستعماري وخاصّة توطين المعمّرين لاستغلال خيرات البلاد التونسيّة، في حين بقيت المناطق الأهلية مهمّشة أمنيّا وظلّ عدد أعوان الشرطة بها قليلا جدا مقارنة بالمناطق التي استوطن بها المعمّرون، وهو ما شجّع كاهية القلعة الكبرى للمطالبة بزيادة أعوان مركز الشرطة بالمدينة.
– انتشار بعض الممارسات الإجرامية في كامل أنحاء الإيّالة ومنها مدينة القلعة الكبرى من أبرزها تفاقم ظاهرة شرب الخمر واستهلاك المخدّرات والشجار والخصومات بالبلدة على حد قول الكاهية:” (…) تبقى الكبرى مهملة مرتعا للسكارى والمَيْسَرْ والمشاجرات(…)”.
ويمكن تفسير ذلك بالتهميش الاستعماري الذي شمل المجتمع الأهليّ بكل من المدن و القرى والأرياف على حد سواء، خاصة منذ مطلع الثلاثينات نتيجة احتداد الأزمة الاقتصادية حيث مثّلت زمن ذروة التهميش وتفاقم البؤس الاجتماعي وظاهرة الفقر والنزوح، ليس في اتجاه الحاضرة، فقط بل وكذلك ببعض المدن الكبرى. وتأكيدا لذلك ببيّن الأستاذ الكراي القسنطيني في أطروحته “الأرياف المحلية والرأسمال الاستعماري”، أنّ سلطات الحماية تعاملت مع هذه الفئات المهمّشة تعاملا أمنيّا، خاصة فئة خرّيجي السّجون الذين يطلق عليهم تسمية “كرّاكجية” (نسبة لسجن الكرّاكة) ومنهم “الفُتوّات”، وهم عبارة عن “أبطال” أو صعاليك “خارج القانون” المعروفين في بعض الدراسات والوثائق الأرشيفية باسم “الباندية” (وهو تعريب مباشر للفظ الفرنسي”Les Bandits “)، ممّن تعاملت معهم السلطات الأمنية بالنفي والإبعاد وتلفيق التهم… للعديد من قضايا السرقة ضدّ مجهولين.
– التقصير المهني والسلوك المشين لبعض أعوان مركز الشرطة في تعاملهم اليومي مع أهالي القلعة الكبرى وتحديدا العون محمّد بن حمودة المتقاعس والمرتشي.
ويمكن تفسير هذا السلوك المهني في تلك الظرفية التاريخية بالذات بجملة من العوامل منها ما هو موضوعي ومنها ما هو ذاتي. بالنسبة للعوامل الموضوعية فهي تكمن في الأزمة الاقتصادية والاجتماعية للثلاثينات في تونس وتدهور المقدرة الشرائية مقابل ارتفاع الأسعار وضعف الأجور وخاصة الفرق البين بين أجر العون الفرنسي والعون التونسي، وهو أمر تمّ تناوله من قبل عديد الصحف الوطنية. ففي مقال صدر له بجريدة المزعج في صائفة 1906 في ركن حوادث محلية تحت عنوان: ” للذَّكَرِ مثل حظّ الاُنْثَيَيْنِ “، كتب الصّحفي محمّد بن عمران ساخرا: “(…) إنّه من غرائب العصر أنّ إدارة المحافظة تولي البوليس الفرنسي ضعف مرتب البوليس العربي، وكأنّه لا استناد لها سوى ‘ للذكر مثل حظّ الأُنْثَيَيْنِ ‘ لكن إذا كان هذا مدعاها فما جوابها إن وُجد للبوليس العربي آير يضارع ما للبوليس الفرنسي. فإن قالت إنّ الداعي غير ذلك وإنّه غربة الفرنسوي فما جوابها عن المجلوبين من أطراف العمالة. فإن قالت أنّ البوليس الفرنسوي عسّته مرجلا واثنتي عشر ساعة في اليوم، فما جوابها إذ كان البوليس العربي كذلك. فإن قالت إنّ البوليس الفرنسوي يأكل ضعف ما يأكل المسلم، فما جوابها إذ أتي لها بمن لا يقتنع بالمرّة فلم يبق إلاّ معنى الجنسية فلا جواب عليه وإن كان منافيا لمقاصد المساواة اللّهم إلاّ إن تكون هاته المسألة مستثناة (…)”.
من هنا نفهم “القاعدة” التي اعتمدتها سلطات الحماية حسب تعبير المناضل الدستوري، الشيخ عبد العزيز الثعالبي، والتي تنصّ على ” (…) أنّ الموظّف التونسي لا يمكن أنّ يتقاضى إلاّ مرتبا أقّل بكثير من مرتّب زميله الفرنسي وذلك في حالة التساوي بينهما في العمل والكفاءة، بدعوى أنّ العمل الذي يقوم به التونسي أقلّ جودة من عمل الفرنسي، وأنّ حاجات التونسي أقل من حاجات الفرنسي (…)”. وهو ادّعاء فنّده الشيخ عبد العزيز الثعالبي، وأرجعه إلى قيمة المنحة المعروفة بـ “الثلث الاستعماري “Le Tiers colonial” التي خصّصتها سلطات الحماية للموظّفين الفرنسيّين، وذلك لتشجيعهم على العمل والاستيطان بتونس، للسيطرة على دواليب الحكم في كلّ مفاصل الإدارة التونسيّة وخاصّة جهاز الشرطة. ولعلّ ذلك ما يفسّر لجوء بعض موظّفي وأعوان الشرطة إلى الرشوة وبعض الممارسات المشينة.
أمام تفاقم هذه الظاهرة وانتشارها بين أعوان جهاز الشرطة منذ بداية الاحتلال فكّرت سلطات الحماية جديا في محاصرتها درءا لشبهة تورّطها فيها ورفعا لاتهام قد يلحقها بغضّ الطرف، فكان أن أمرت ببعث مصالح رقابة وتفقّد لأعوان الشرطة، سعيا منها لتشديد متابعة مقترفيها وملاحقتهم وتسليط العقوبات الإدارية عليهم. وتشهد على ذلك أشغال مجالس التأديب لأعوان جهاز الشرطة التي أكّدت أن الارتشاء والابتزاز هما من أهمّ التجاوزات الإدارية التي يرتكبها بعض أعوان جهاز الشرطة إضافة إلى التقاعس والتقصير في أداء الواجب.
لذلك اقترح كاهية القلعة الكبرى نقلة عون الأمن محمّد بن حمّودة إلى جهة أخرى واستجلاب عون آخر شيمته النشاط والاستقامة والتفرغ للعمل. وهو اقتراح يعكس وجود حسّ أمني لدى ممثل السلطتين المحليّة والجهوية، الأهليّة والفرنسيّة على حد سواء بدور رجل الأمن في الحفاظ على الاستقرار وتجنيب البلدة احتجاجات وتحرّكات، هم في غنى عنها. ويظهر ذلك من خلال تحويل قايد سوسة، الأستاذ عبد الجليل الزاوش مراسلة كاهية القلعة الكبرى إلى المراقب المدني بها، “أندري قرنيك “Graignic André” (المعروف بقسوته ولجوءه إلى العنف عوضا عن الحوار)، الذي قام من ناحيته وبعد الاطّلاع عليها إضافة عبارتين باللغة الفرنسية في أسفل الوثيقة الرسمية: ” رأي مطابق ” Avis conforme” و:” تمّ الاطّلاع عليه وتحويله “Vu et transmis ” ثمّ ختمها وتوجيهها إلى الكتابة العامّة للحكومة بالقصبة بتونس العاصمة.
خاتمــــــــــــــــة:
لهذه الوثيقة قيمة تاريخية وأرشيفيّة هامّة. فهي تعكس الأهمية التي كانت تحتلها القلعة الكبرى من النواحي الديمغرافية والعمرانية والاقتصادية… من جهة، وخاصّة المكانة الأمنية المتزايدة للبلدة في ثلاثينات القرن العشرين من جهة ثانية.
كما تعكس حرص السلط المحلية ممثّلة في الكاهية والجهوية ممثّلة في كل من القايد والمراقب المدني على توفير كل ظروف الأمن والراحة لمتساكنيهم وعلى مراقبة سلوك وأداء أعوان الأمن برصدهم للنقائص والإخلالات الأمنية وخاصّة حرصهم على التصدي لتجاوزات بعض أعوان الأمن بالقلعة الكبرى وعديد الظواهر الاجتماعيّة الأخرى وفي مقدمتها ظاهرة الرشوة والتقصير في أداء الواجب، إضافة إلى سوء معاملتهم للأهالي. وفي ذلك دليل واضح على حصول وعي لدى ممثلي السلطتين المحليّة والجهوية بدور الأمن في توفير كل ظروف الراحة للسكّان وأنّ سلوك الأمني هو من شروط الازدهار الاقتصادي الاجتماعي وخاصّة الاستقرار السياسي لفرنسا بتونس !
نصّ الوثيقـــــــة:
” الحمد لله وحده
محمّد بن حمّودة عون البوليس الأهلي بالكبرى
جناب العمد الهمام المحترم الأغرّ سيدي الكاتب العام بالمملكة التونسية حرس الله كماله وبعد فلا يخفى على جنابكم ما للقلعة الكبرى ودائرتها من الأهمية العمرانية والاجتماعية والفلاحية وما لدائرة منطقة محافظتها من الأقسام ولا ريب أيضا أنّه يلزم عدد كاف من أعوان المحافظة يتناسب مع كبر الدائرة الراجعة لنظرها وذلك للقيام بالواجبات المفروضة عليهم وبذل الجهود المفيدة لمراقبة الحالة العامة في كامل الدائرة ولا شكّ أن عونا واحدا مع بريقادي غير كاف لمثل دائرة الكبرى فأن هذه البلدة وحدها تحتاج احتياجا أكيدا لعونين على الأقلّ دون البريقادي أن يتفرّغ وحده للعمل بالكبرى فقط، بل أنّ بضرورة كبر الدائرة الراجعة إليه يكون في أغلب الأحيان إمّا متجولا أو متوجها مع العون الأهلي خارج بلدة الكبرى ببقية مراكز الدائرة ومتفرغا لتحرير المخالفات والأجوبة عن الواردات وفي الوقت الذي يتحتّم فيه التجول أو التواجد ليلا لأحد من المراكز تبقى الكبرى مهملة ومرتعا للسكارى والميسر والمشاجرات ولمقاومة هذه الحالات الفاسدة ومكافحة الشرور أرجو زيادة عون على الأقل في محافظة الكبرى ليبقى هذا المزاد رابضا بها ومراقبا للحالة العامة وقت مغيب البريقادي والعون الأخر بإحدى مراكز الدائرة في أي وقت كان. كما أرجو نقلة العون محمّد بن حمودة عون البوليس الأهلي بالكبرى إلى جهة أخرى وتعويضه بأخر شيمته الاستقامة والنشاط والانقطاع للعمل المنوط بعهدته فإنّ المذكور أعلاه ظهر عليه تراخي في نشاطه لازمه لكبر سنه فيما يظهر عليه ولم يبقى وجوده صالحا لمثل القلعة الكبرى ودائرتها التي تحتاج بلا شك إلى عمل مستمر ونشاط متزامن ونباهة متجددة ولجنابكم سديد النظر. الفقير إلى ربّه أحمد بن رمضان كاهية القلعة الكبرى “.