قراءة في كتاب:
“كيف زُرِعَ الفكر التكفيري في ثمانيات القرن العشرين بتونس (شهادة للتاريخ) ؟” للأستاذ أحمد خالد، منشورات زخارف، شركة بوبليغراف، تونس، جوان 2014، 247 صفحة.
د. عادل بن يوسف – كليّة والآداب العلوم الانسانية بسوسة –
حسب ما ورد في تصديره، الكتاب في الأصل نتاج بحث علمي أنجزه صاحبه: الأستاذ أحمد خالد[1] عندما كان مسؤولا في أعلى مستوى جهاز الدولة في عهد بورقيبة وتحديدا حين تولّى رئاسة ديوان وزير الثقافة. وقد ظلت هذه الدراسة محفوظة في مكتبته تنتظر الوقت المناسب لإظهارها للرأي العام كشهادة تاريخية نظرا لاحتوائها على أسرار للدولة وما تقتضيه أخلاقيات وآداب النشر من واجب التحفّظ.
دوافع صدور الكتاب اليوم بالذات:
على إثر الأحداث التي شهدتها البلاد التونسية منذ 14 جانفي 2011 في جميع الميادين وخاصّة في الميدانين الثقافي والديني رأى صاحبه أنّه “…قد جاء الوقت المناسب لإظهار هذا الكتاب الموثّق بالأدلة ليُضيء جانبا كبيرا من خلفيّة ما يعانيه الآن شعبنا المكتوي بظاهرة الإرهاب غير المألوف في بيئتنا التونسية وإسلامنا السنّي المعتدل منذ فجر الرسالة المحمديّة…” وأنّ عديد الظواهر وفي مقدمتها الإرهاب والتكفير والجهاد باسم الدين ليست وليدة “التحرّر” التامّ من كل أشكال الرقابة السياسية والفكرية والدينية، بل هي نتاج لفكر ومنظومة تربوية وثقافية بدأت تُزرع في مؤسّساتنا التربوية ومكتباتنا العمومية والخاصة وبيئتنا التونسية عامة منذ مطلع الثمانينات، أي زمن إشراف الأستاذ البشير بن سلامة على وزارة الثقافة في حكومة الأستاذ محمّد مزالي بين 02 جانفي 1981 و12 ماي 1986.
فما هي أبرز أقسام الكتاب وخاصة مضمونه وأهميته التوثيقية والتاريخية والإضافات التي قدّمها للمكتبة التونسية المعاصرة ؟
أقسام الكتاب:
جاء الكتاب في 247 صفحة موزّعة بين مدخل عام تأليفي (في41 صفحة) تضمّن أحد عشر عنوانا أوّلها عنوان: “منشورات تكفيرية مناهضة للفكر الاصلاحي التنويري التونسي” وثلاثة أبواب وخاتمة وملحقات وفهرس للمواضيع. وضمّ كل باب من الأبواب الثلاثة مدخلا عاما في بدايته واستنتاجا في نهايته.
ورد الباب الأوّل الذي يحمل اسم “منهج الكشف عن المنشورات التكفيريّة المفجّرة” في 51 صفحة. وقد قسّم المؤلّف هذا الباب إلى مقدّمة وخمسة فصول وخاتمة. تناول في كل فصل منها قضيّة من القضايا المتصلة بالقضيّة المركزية التي يتمحور حولها الكتاب وهي تباعا: معطيات إحصائية عامة – تعريف الببلوغرافيا الوطنية التونسية – تحليل الببلوغرافيا الوطنية لسنة 1984 – الإيداع القانوني – ثغرات خطيرة في تطبيق القانون: قنابل تتجوّل…
أمّا الباب الثاني فقد وسمه بعنوان: “كشف عام عن دعم صندوق التعويض لكتب الدعوة والجهاد”، فقد ورد في سبعة فصول، هي تباعا: مدخل عام إلى البحث – كيف تدخّل الصندوق العام للتعويض لفائدة الورق الثقافي وما هي تراتيبه القانونية والإدارية وما هي الثغرات في التطبيق؟ – مقياس نجاح الدعوة التعبوية الجهادية: التكوين الخصوصي للجيل الاسلاموي – تحليل عيّنات من منشورات تكوين الأتباع وتكييف عقولهم ليسهل استقطابهم وتجنيدهم للقضاء على الدولة المدنية (نماذج ببلوغرافيّة تحليلية) – التمهيد النفساني والإيديولوجي للثورة “الاسلامية”- التوجيه السياسي العالمي للحركات الاسلاموية – مفهوم ظلامي للمعرفة يرفض الفكر الغربي على الاطلاق ودون تمييز ولا يقبل الحوار الثقافي والحضاري بين الشعوب –
أمّا الباب الثالث والأخير فقد ضمّ كشفا دقيقا لعناوين الكتب “الصفراء” وتحديدا عيّنة بسبعة عناوين من الكتب التي عرضت للعموم في المعرض الدولي للكتاب بتونس اتخذ له من الأسماء: “منشورات الدعوة لولاية الفقيه في المعرض الدولي للكتاب”.
أمّا ملحق الكتاب فهو ذو قيمة تاريخية وتوثيقية نادرة. فقد تضمّن 23 وثيقة تاريخية نادرة في شكل صور للغلاف الخارجي لهذه الكتب وتقارير ومراسلات رسمية وكشوف دقيقة…، لهذا الصنف من المؤلّفات. وتكمن قيمة هذه الوثائق في اعتقادنا في كشفها عن أشكال تعامل وزير الثقافة ورئيس الحكومة ومدير الحزب الدستوري الحاكم آنذاك مع الكتاب الديني.
بعد هذا الجرد للكتاب وأقسامه، فإننا نتساءل عن طبيعة المادة الواردة في هذه المؤلّفات ؟
مدوّنة زاخرة بالكتب “الصفراء”:
ذكر صاحب الكتاب في مؤلّفه عشرات العناوين من أمهات الكتب الدينية التي تمّ تداولها في تونس في ثمانينات القرن الماضي، سواء في مكتباتنا العمومية ومؤسساتنا الثقافية والتربوية أو في المكتبات ونقاط البيع من فضاءات تجارية ودُورِ نشر…، أو تلك التي سُمح لها بالدخول إلى بلادنا بمناسبة المعرض الدولي للكتاب بتونس.
ولم تقتصر هذه العناوين على الاهتمام بالشأن الديني من علوم شرعية: عقيدة وقرآن وحديث وفقه وتفسير…، بل تجاوزته لتركّز على المسائل ذات الصلة بالشأن السياسي والاجتماعي والفكري…، وتتعمّق فيها فكرا وممارسة.
ونظرا لكثرتها فإننا نورد ثمانية وثلاثين مؤلّفا (38) منها في الجدول التالي بعناوينها وأسماء مؤلّفيها.
عنوان الكتاب | المؤلّف |
1- تحديات في وجه المجتمع الاسلامي. | أنور الجندي |
2- الخنجر المسموم الذي طُعن به المسلمون. | أنور الجندي |
3- نحن وحضارة الغرب. | أنور الجندي |
4- موقف الاسلام من العلم والفلسفة الغربية. | أنور الجندي |
5- التغريب أخطر التحديات في وجه الاسلام. | أنور الجندي. |
6- في مواجهة الفراغ الفكري والنفسي في الشباب. | أنور الجندي |
7- على الفكر الاسلامي أن يتحرّر من سارتر وفرويد ودوركايم. | أنور الجندي |
8- الاسلام في مواجهة التيارات الوافدة والمؤثرات الأجنبية. | أنور الجندي |
9- مفاهيم النفس والأخلاق والاجتماع في ضوء الاسلام. | أنور الجندي |
10- هل غيّر الدكتور طه حسين آراءه في سنواته الأخيرة. | أنور الجندي |
11- حركة الترجمة. | أنور الجندي |
12- محاذير وأخطار في مواجهة إحياء التراث والترجمة من الفكر الغربي. | أنور الجندي |
13- الفكر البشري القديم. | أنور الجندي |
14- الاستشراق. | أنور الجندي |
15- القيادة الاسلامية. | جواد كاظم |
16- دعِ القلق وابْدَأِ الدعاء. | علي ناصر |
17- الايديولوجية الاسلامية. | عبد الحميد المهاجر |
18- كيف عرفت الله ؟ | محمّد الشيرازي |
19- إلى حكم الإسلام. | محمّد الشيرازي |
20- حوار حول تطبيق الإسلام. | محمّد الشيرازي |
21- قادة الغرب يقولون: دمّروا الإسلام أبيدوا أهله. | جلال العالم |
22- الإنتاج الذري الصيني وصلته بمسلمي تركستان الشرقية. | محمّد حرب |
23- وحدة الأمم الاسلامية. | أبو الأعلى المودودي |
24- ذبائح أهل الكتاب. | أبو الأعلى المودودي |
25- واجب الشباب المسلم. | أبو الأعلى المودودي |
26- تحديات العصر الحاضر والشباب. | أبو الأعلى المودودي |
27- الحكومة الاسلامية. | أبو الأعلى المودودي (تعريب أحمد إدريس) |
28- أبو الأعلى المودودي: صفحات من حياته وجهاده. | أبو الأعلى المودودي (تعريب أحمد إدريس) |
29- الأصول الاخوانية للدعوة: مذكّرات الدعوة والداعية. | حسن البنّا |
30- نبوءات المصطفى. | نشأت المصري |
31- أزمة روحيّة. | عصام العطّار |
32- من أحوال المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. | جلال كشك |
33- خطوات في الهجرة والحركة. | عماد الدين خليل |
34- الشريعة الاسلامية والأجانب في دار الاسلام. | محمّد عطيّة خميس |
35- حكايات عن عمر. | محمّد جلال كشك |
36- يوم كنا خير أمّة. | محمّد جلال كشك |
37- الاسلام والحكم. | أبو الحسن الندوي |
38- الاجتياح بين المطرقة والسنديان. | أبو مهدي |
وإذا كانت تلك هي أبرز العناوين لنا أن نتساءل عن أهمّ الأفكار الواردة فيها ؟
أفكار هدّامة غريبة عن الثقافة التونسية:
بالنسبة للأفكار الواردة في هذه المؤلّفات توقّف صاحب الكتاب عند الكثير من مضامينها. ونظرا لتأثيرها البالغ والخطير على أفكار وعقول الناشئة التونسية وعديد الشرائح من مختلف الأوساط والأعمار… حينئذ، فقد اعتبرها الأستاذ أحمد خالد على غاية من الخطورة واصفا إيّاها بـ “المفجّرة” و “الهدّامة” للثقافة والفكر التونسيَيْنِ بكل ما للكلمة من معنى.
وبحكم دسامة مادتها وصعوبة الغوص في محتواها تمحيصا وتحليلا ونقدا…، في مثل هذا المقام، فقد آثارنا التطرّق إلى مسألتين رئيسيتين منها، هما المسألة الفكرية – الثقافية والمسألة السياسية، مع ذكر مقتطفات قصيرة منها لنترك لقرّاء مجلتنا الكرام فرصة الحكم لفائدة هذا المحتوى أو عليه:
* في الشأن الثقافي: علاقة الاسلام بالغرب وموقفه من الفلسفة والعلوم العصريّة:
ذهب أنور الجندي في مؤلّفه “تحدّيات في وجه المجتمع الاسلامي” إلى ضرب الحصار الشديد على الفكر الاسلامي وإحكام غلقه وتحصينه حتى “لا يتلوّث” بالفكر الغربي. أما في مؤلّفه “الخنجر المسموم الذي طُعن به المسلمون” فإنّ “الخنجر المسموم” هو تعبير مجازي، المقصود به “التعليم” ببرامجه ومناهجه الحديثة… “سيطر عليها الغرب في العالم الاسلامي “، فأقصى بها “الشريعة عن مجال التطبيق وأحلّ محلّها القانون الوضعي وطُعن المسلمين في لغتهم وتوجّههم السياسي الاسلامي وفهمهم للعلم وتصوّراتهم الاجتماعيّة”. وفي كتابه “نحن وحضارة الغرب” يؤكّد أنور الجندي “فساد التجربة الغربية” ويقرّر فشل جميع النظريّات والأمثلة التي ظهرت في العالم ما عدا الاسلام.
وفي مؤلّفه “موقف الاسلام من العلم والفلسفة الغربية” رفض أنور الجندي “العلمانيّة” “رغم كونها مستعملة من قبله بمعنى “العلوم الخارجة عن الدين” وشدّد على ضرورة “تشديد الخناق على العلم والفلسفة الآتيين من الغرب”. وفي كتابه “مفاهيم النفس والأخلاق والاجتماع في ضوء الاسلام” اعتبر أنور الجندي علوم الاجتماع والنفس والأخلاق…، غزوا ثقافيا هدفه مبيت وهو تغريب المسلمين وينادي بإيجاد علوم اسلامية في تلك الميادين. فهو بذلك انعزالي تصحّري لا يؤمن بالتلاقح الثقافي وحوار الحضارات !
وأكثر من ذلك اتهم أنور الجندي عميد الأدب العربي طه حسين في كتاباته عن السيرة النبوية والتاريخ الاسلامي بـ “التواطؤ مع الصهيونيّة”. وقد ذهب نفس المؤلّف إلى أبعد من ذلك في كتابه “محاذير وأخطار في مواجهة إحياء التراث والترجمة من الفكر الغربي” اذ اعتبر “…ظاهرة المترجمات إلى اللغة العربية من الفكر اليوناني الوثني القديم والفكر الغربي الليبرالي والماركسي تحتاج إلى نظرة فاحصة…” وحركة ترجمة الفكر الغربي إلى اللغة العربية عامة “تغريب للإسلام وبلاده”. وبذلك يكبّل العقول والأفكار متناسيا أنّ أوج الحضارة العربية الاسلامية (في العراق وبلاد الشام والأندلس… قد تحقّق بفضل ترجمة أمّهات الكتب من السريانية واليونانية والفارسية…، إلى اللغة العربية.
* في الشأن السياسي: نظام الحكم:
عّرضت بتونس في الثمانينات عبر المعرض السنوي للكتاب كتب ايديولوجيّة شيعيّة تصبّ جميعها في مصبّ واحد هو الحثّ على التمرّد ضد الدولة المدنيّة.
بعد إعفاء الأستاذ البشير بن سلامة من منصبه على رأس وزارة الثقافة في 12 ماي 1986، أذن خلفه الأستاذ زكرياء بن مصطفى بجلب أكوام من المنشورات، كانت قد أحالتها إدارة معرض تونس للكتاب – عن طريق إدارة الآداب – على المركز الثقافي الدولي بالحمّامات قصد إنماء رصيده.
وقد تولى الأستاذان الجيلاني بالحاج يحي – المستشار بوزارة الشؤون الثقافية- وعبد الوهاب الدخلي -المدير الجديد لإدارة الآداب- بجرد دقيق لهذه الكتب وضبط قائمة بواحد وعشرين عنوانا اعتبرت “كتبا مشبوهة” دون بيان مواطن شُبهتها وخطورتها. لقد شدّد مضمون هذه الكتب الشيعية في غالبيتها على ايديولوجية “حزب الله المختار” التي اشتهرت باسم “جماعة الفرقان الذرّي” التي تزعمها منذ سنة 1974 المشعوذ علي الداني “بمدينة توزر مسقط رأسه، فاستدرج إلى دعوته عناصر طائشة في بعض الجهات كمنطقة المزّونة بولاية سيدي بوزيد والقصرين وبنزرت “ويحيط دعوته بالأسطورة والشعوذة. وقد أعدّ للتعريف ببرنامجه كراسا صغيرا سحبه بالتصوير بعشرات الآلاف من النسخ تحت عنوان: “حجّة الله صاحب الفرقان الذرّي أبي محمّد الطاهر الشريف علي الداني “. وقد زعم هذا الداعية المشعوذ الذي تمّ إيقافه ومحاكمته مع جماعته ابتدائيا يوم 10 ماي 1986 “بأنّ مشروعه أوصى به المهدي المنتظر عندما التقى به “. (مجلّة الدستور في عددها الصادر يوم 11 أوت 1986، ص 10).
وعلى صعيد آخر جهرت مجموعة “الجهاد الاسلامي” بلسان من ولّته أميرا عليها، وهو الحبيب الضاوي أثناء محاكمتها في أوائل جويلية 1986 بنظريّة “ولاية الفقيه” والجهاد من داخل المجتمع الاسلامي الذي يعتبرونه منحرفا إلى الجاهليّة وحكم الطاغوت، أي مجتمعا كافرا.
وفي كتاب “القيادة الاسلامية” لجواد كاظم نجد في مقدمته ابتهالا إلى الله أن “يعمّم الجمهورية الاسلامية في كل بقاع الاسلام والمسلمين”. ويعتبر هذا الكاتب أنّ الدولة المدنية طاغوتا ويجب تكفيرها ومقاومتها.
أمّا في كتاب “دع القلق وابدأ الدعاء” لصاحبه علي ناصر، فالمؤلّف يشير صراحة إلى ما تلقاه الحركات الاسلاموية في بلدان المغرب العربي من مواجهة ويقرنها بالضغوط التي تواجهها الثورة الخمينية. ويعالج الكتاب مسألة القلق، التي مردّها هروب الغرب من الفراغ الروحي والقلق إلى تعاطي المخدّرات… أما الخلاص من ذلك الفراغ والقلق فلا يكون إلاّ بالدعاء وهو في رأيه: “علاج شامل لجميع أمراضنا النفسية والعقلية والجسمية” (ص 23). فالدعاء عنده تعبئة روحية “Mobilisation spirituelle” تهيء للتعبئة العسكرية “Mobilisation militaire” كما يراها بشكل دقيق في: “… جيش الجمهورية الاسلامية في إيران وضمن قوّات التعبئة الشعبية حيث يكون الانخراط العميق في صفوفها من قبل الشباب والرجال ويتوهّج الحماس في قلوب هؤلاء للالتحاق بجبهات القتال للحصول على وسام الشهادة …” (ص 63).
أخيرا في كتاب “يوم كنّا خير أمّة” لمحمّد جلال كُشْك، فإنّنا نجد إعدادا نفسانيا وإيديولوجيا للثورة الاخوانية يختمه المؤلّف بخواطر متطرّفة حول ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبل عامة الناس، باليد وباللسان أو بأضعف الإيمان وهو القلب. ويسترسل كشك في الحثّ على التمرّد على الدولة المدنيّة بعد أن اعتبر الأنظمة الاسلامية في الحاضر جاهليات طاغوتية بقوله: “… إذا استند الباطل إلى السلطة… حقّت الثورة…” (ص 45). وغيرها من الأفكار والمفاهيم والقيم السياسية الواردة في هذا المؤلّف وغيره من المؤلّفات التي اكتسحت بقوّة عقول الكثير من شباب تونس في ثمانيات القرن العشرين وزرعت بذور فكر جديد انبنى على التكفير والتفرقة في إسلام وعقيدة التونسيّين وفتحت باب الفوضى والتشريع لنسف مكتسبات الدولة المدنيّة على مصراعيه.
كان ذلك يحصل بمرآى ومسمع الجميع في وقت كانت تمنع فيه عديد الكتب عن الماركسية والفكر الشيوعي عامة من الدخول إلى تونس وتسحب فيه جميع منشورات وبيانات تنظيمات اليسار التونسي غير المعترف به وفي مقدمتها صحيفة “العامل لتونسي”الناطقة باسم المنظّمة التّي تحمل نفس الاسم ومقالات رموز ونشطاء اليسار التونسي بمختلف تفرّعاته على غرار: جلبار نقّاش ومحمّد الشرفي وأحمد نجيب الشابي ونور الدين بن خضر وعزالدين الحزقي وأحمد بن عثمان الردّاوي، وعزالدين الحزقي ومنجي اللّوز والنّوري بوزيد وعبد اللّه الرّويسي وحمّة الهمامي ومحمّد الكيلاني والهاشمي الطرودي…، وغيرهم كثيرون.
وعلى ضوء كل ما تقدّم يصحّ القول أنّه عوض الاهتمام بمسائل التنمية الجهوية والمحلية والتشغيل والتعليم والصحّة… التي تعود بالنفع على جميع التونسيّين، كان الاهتمام بأفكار وافدة على بلادنا تسبّبت في حصول صراعات ايديلوجية – دينية ومهّدت إلى حد كبير في تقهقر المجتمع التونسي وانفصام وحدته وانتكاسة ثقافته.
وبعد استعراض مدوّنة الكتب الدينية وعيّنات من مضمونها، يحقّ للقارئ أن يتساءل: ما هي مجالات ترويج و”زراعة” مثل هذه الكتب “المفجّرة” و”الهدّامة” للفكر والثقافة التونسية وما هي أسباب سماح السلطات التونسية في أعلى هرمها بترويجها ؟
حقائق مريرة وحجج دامغة عن ضعف الحكومة و”مهادنتها” للظاهرة الأصوليّة في تونس لأسباب سياسوية ضيّقة:
كشف صاحب الدراسة عن كيفيّة زرع الفكر التكفيري المكيّف لعقول فئة من شبابنا ولبعض الفئات الاجتماعية المهمّشة تحديدا، بتعبئتهم ايديولجيا واستقطابهم في حركات سلبية متطرفة لخلخلة المجتمع المدني ومؤسّسات الدولة بهدف إقامة ما سمّوه – بحسب طباعهم الإيديولوجية الإسلامويّة: “الحكومة الإسلامية” أو “الخلافة” أو “ولاية الفقيه”…
وقد أفضى هذا الفكر التكفيري في نظر الأستاذ أحمد خالد إلى “أبغض أنواع الإرهاب باسم الدين” وذلك عبر طرق ثلاث:
– أولا: زَرع هذا الفكر التكفيري في برامجنا وكتبنا المدرسية الرسمية لمادة التربية الإسلامية في المرحلة الثانية للتعليم الثانوي في أواسط ثمانينات القرن العشرين إلى حدود مارس – أفريل 1989. وقد بيّن ذلك بأمثلة دقيقة اكتشفها عندما عُيّن على رأس كتابة الدولة للتربية (1989-1990).
– ثانيا: زَرع الفكر التكفيري باكتساحه لساحتنا الثقافية عبر طوفان من الكتب المستوردة من معاقل الحركات السلفية المتطرفة بالمشرقين الأدنى والأقصى، فتبنّتها بعض دور النشر التونسية، التي أعادت طبعها ونشرها، ونسبت باطلا إلى “الكتاب الثقافي التونسي” وتمتعت بدعم المال العام من “صندوق التعويض” و”صندوق التنمية الثقافية” في الفترة الممتدّة بين 1981 و1986.
– ثالثا: زَرع الفكر التكفيري بالكتب الإسلاموية السياسوية المستوردة من معاقلها المشرقية عبر المعرض الدولي التونسي للكتاب في نفس الفترة (1981-1986).
و العجب العجاب أنّ الكتب التكفيرية الصدامية التي تستهدف نسق الدولة المدنية وتعتبرها “طاغوتا” قد تحصّلت على الإيداع القانوني الذي كان يصدر من وزارة الداخلية. كما وجدت التشجيع والدعم من المال العام والتوصية باستخدام الورق الثقافي (“أفنور 7” “AFNOR 7”) في صناعة الكتب التكفيرية، واقتناء عناوينها للمطالعة العمومية.
ولم تكن ملفات دعم الكتب التكفيرية واقتنائها تمرّ من مكتب الضبط المركزي بوزارة الثقافة، بل تراوغه لتُرْسَلَ بالتوصية للتنفيذ مباشرة إلى وزارة الاقتصاد (صندوق التعويض)، وإلى وزارة المالية (صندوق التنمية الثقافية).
والأغرب من ذلك، كانت كميات من الكتب التكفيرية الصادرة خارج الحدود التونسية تصدّر بعد إمضاء اتفاق بين وزير الثقافة وشركة الخطوط الجوية التونسية، بتخفيض لسعر شحنها قُدّر بـ 70 %. (أي 30 % من سعر الشحن) والبقية تحملتها وزارة الثقافة من المال العام، أي من “صندوق التنمية الثقافية”. وبهذه الطريقة صُدِّرَتْ كميات من الكتب التكفيرية محسوبة بالمغالطة على “الكتاب الثقافي التونسي” إلى أجوارنا في المغرب العربي وبعض بلدان إفريقيا السمراء والبلدان الأوروبية.
وهكذا أصبحت تونس المعروفة باعتدالها مُصدّرة للفكر التكفيري الصدامي الذي لم يكن من إبداع الفكر التونسي، في حين أنه منسوب بالباطل إلى “الكتاب الثقافي التونسي” وكل ذلك موثّق بالأدلّة في كتاب المؤلّف (انظر الملحق).
وحينما أطلع صاحب الكتاب ومدير ديوان وزير الثقافة سابقا رئيسه، الأستاذ البشير بن سلامة وزير الثقافة آنذاك (1981-1986) على الدراسة الأولى الاستكشافية للكتب الصدامية المفجّرة للمجتمع المدني وما يحدث من مخاطر في ترويجها، عوض أن يتدارك الأمر ويبادر بإيقاف التيّار، فقد تشنّج وأصرّ على العناد بتبني هذه الكتب التكفيرية الغريبة عن فكرنا التونسي الأصيل وإسلامنا المعتدل، فظلّت تنعم بالدعم والتشجيع من المال العام.
والأدهى من ذلك أنّ الوزير عمد إلى مغالطة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (UNESCO) التي طلبت ثبتا للكتب المترجمة في تونس لتُدرجها – حسب مواصفات معيّنة – في المجلّد الثامن والثلاثين للفهرس العالمي للكتب المترجمة (Index Translationum)
وقد أمضى وزير الثقافة رسالة رسمية بقائمة في عناوين كتب لمنظري الدولة الدينية، وفي مقدمتهم: الخميني و”آيات” الله ومنظري الثورة الاسلامية الايرانية وأمناء حزب الله ومنظريه وغيرهم. وهي كتب ليست من تأليف ولا من ترجمة أقلام تونسية.
ورغم رفض صاحب الكتاب شخصيا إمضاء المشروع الأصلي للمراسلة ولفته نظر الوزير لبطلان نسبة تلك الكتب إلى تونس فقد أصرّ الوزير على مغالطة اليونسكو بنسبه تلك العناوين المترجمة عن علي شريعتي الإيراني وأبي الحسن الندوي الهندي…، إلى تونس.
كتاب الأستاذ أحمد خالد هو إذن شهادة للتاريخ يفيد الرأي العام لمعرفة الخلفية التاريخية لزرع الفكر التكفيري في تونس والتمهيد لظاهرة الإرهاب باسم الدين. لذا والحال تلك لا يمكن مقاومة ظاهرة الإرهاب بتجاهل الفكر التكفيري المزروع.
كما أطلع صاحب الكتاب الوزير الأول المرحوم الأستاذ محمّد مزالي على النسخة الأصلية الأولى لترويج تلك الكتب التكفيرية الصدامية. وبعد إطلاعه عليها إثر استقباله في مكتبه كان رد فعله بعبارة فرنسية واحدة: “Laissez faire “، أي بمعتى ” أترك الأمور على حالها “.
ذُهِلَ الأستاذ أحمد خالد بهذا الردّ، وأيقن أنه كان يغرّد خارج السرب. وكان يقينه أنّ الولاء للوطن قبل الولاء للأشخاص، وأنّ الثقافة مسؤولية وأمانة، وأنّ طاعة الأمر بترك الحبل على الغارب إنما هي مشاركة في الإثم. حينئذ قرّر أنّ وجوده على رأس الديوان بوزارة الثقافة لم يعد ممكنا، فطلب في رسالة بخط يده مباشرة إلى الوزير الأول إعفائه من رئاسة الديوان وإحالته على التقاعد. وكان جواب الوزير الأول عن طلبه بالصمت. فغادر بإرادته المسؤولية والوظيفة العمومية في غرّة جانفي 1986.
وعلى ضوء ما تقدّم يحقّ لنا اليوم بعد مرور قرابة ثلاثين سنة عن هذه الأحداث أن نتساءل : ما هي أسباب “مهادنة” الحكومة للكتب الدينية والظاهرة الاسلاموية عامة في تونس في مطلع الثمانينات ؟
خلط في الحسابات السياسية:
لا يزعم صاحب الكتاب أنّ المرحوم محمد مزالي بتكوينه الفلسفي النقدي العقلاني يتبنى الفكر التكفيري، فهذا مباين لقناعاته، لكن هناك خلط في ذهنه وحساباته السياسية في ظروف الصراع على خلافة بورقيبة بين “الصحوة الإسلامية” ذات الاتجاه الاجتهادي التنويري المواكب لمعطيات العصر، وهي صحوة مستحبّة في فكر محمّد مزالي المدافع من جهة عن الهويّة التونسية العربية الإسلامية -وهذا لا يعاب عليه- وبين ما ينزلق إليه من جهة أخرى الجناح المتطرف للحركات السلفية التكفيرية الجهادية التي تُشرّع للعنف المفضي إلى الإرهاب في ركوبها مطيّة الدين للوصول إلى كراسي الحكم، والإطاحة بالدولة الحديثة وإقامة الدولة “الدينية” بمختلف مسمّياتها.
نعم، كان هناك خلط في ذهن الأستاذ محمّد مزالي بين الصحوة الإسلامية التنويرية من جهة، والانزلاق التكفيري الجهادي من جهة أخرى، وهو ما يعاب على وزير أوّل ورجل فكر ومثقّف في دولة مدنيّة. ولذا، عوض أن يأذن بفتح بحث بخصوص ترويج المنشورات التكفيرية ودعمها واقتنائها بالمال العام، فإنه ترك الحبل على الغارب. وليس من المستبعد أن يكون غضّ الطرف عن تلك المنشورات لحسابات سياسية يراد بها كسب تعاطف “حركة الإتجاه الإسلامي” الإخوانية المُتمشرقة في أواسط ثمانينات القرن الماضي، والمتأثرة بأدبيات حسن البنّا، وسيّد قطب وأبي الأعلى المودودي وغيرهم.
وقد حدث ذلك التعاطف المحسوب سياسيا بين محمّد مزالي وقيادة حركة الاتجاه الإسلامي في ظروف استفحال الصراع على خلافة بورقيبة. وتأكيدا لذلك استقبل محمد مزالي أبرز قيادي الحركة: الشيخان راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو، مرّة أولى في بيته بسكّرة في صائفة 1984 ثمّ مرّة ثانية بمكتبه إثر قصف المخيّم الفلسطيني بحمّام الشط في غرّة أكتوبر 1985. وفي هذا الإطار جدير بالتذكير أنّ “مهادنة” الأستاذ محمّد مزالي للإسلاميّين وقربه منهم كان لأسباب “سياسويّة” صرفة، أي استمالتهم لضمان مساندتهم له ضد خصوم وكتل كثيرة داخل قصر قرطاج وخارجه وحتى صلب الحكومة نفسها في صراع خلافة الرئيس الحبيب بورقيبة في الحكم الذي اهتزّت صورته أكثر من مرّة بالداخل والخارج بسبب شيخوخته ومرضه…
ولم يغب حينئذ التصرّف الأرعن تجاه المنشورات التكفيرية الصدامية عن الدوائر المسؤولة حتى غادر البشير بن سلامة وزارة الثقافة في 8 ماي 1986 وعوّض بزكرياء بن مصطفى. وبلغ صدى ما كان يروّج من المنشورات التكفيرية إلى سماع الرئيس الحبيب بورقيبة، فاستدعاه لمقابلته بعد ظهر يوم 31 جويلية 1986 بقصر صقانس المنستير والتفاصيل موثّقة.
وبطريقة أو بأخرى من الضروري أن نتساءل: ماذا روّجت الكتب التكفيرية التي اكتسحت الساحة الثقافية في الأوساط المدرسية وفي المجتمع التونسي عامة بعد فترة الثمانينات؟
تشجيع الناشئة على “الجهاد الاسلامي” والعنف وضرب النساء…:
على سبيل المثال استُخدم كتاب التربية الإسلامية في السنة الرابعة ثانوي للدعوة إلى تطبيق الشريعة وإقامة الحدود بقطع الأيدي. وأباح الكتاب المدرسي الرسمي في التربية الإسلامية العنف، فدعا إلى “الجهاد الإسلامي” داخل المجتمع الإسلامي واعتبر “محاربة المخالفين (منظور الجماعة) أوكد من جهاد العدوّ البعيد “، وشرّع لــ “وجوب التصدي لمن يمنع نشر الدعوة” بذلك المفهوم المتطرّف.
كما حثّ الكتاب المدرسي الرسمي في مادة التربية الإسلامية على “وجوب الطاعة للأوامر” (أي أوامر القيادة الإسلاموية بالمفهوم المتطرف).
لقد دعا الكتاب المدرسي الرسمي إلى إباحة ضرب النساء مدّعيا أنّ ذلك أفضل من طلاقهن وهذا تشريع لقانون الغاب (كتاب التربية الإسلامية للسنة الرابعة ثانوي).
كما استخدم الكتاب المدرسي الرسمي للتربية الإسلامية في السنتين السادسة والسابعة لمقاومة الفكر الفلسفي النقدي لجهابذة الفكر الإنساني وخاصة طه حسين، فكفّروه… ويندرج ذلك طبعا في تخدير عقول الشباب لاستقطابهم وتعبئتهم بسهولة وكل ذلك موثّق بالشواهد والوثائق “التاريخية” وكلها موجودة في كتاب الأستاذ أحمد خالد.
فما هي نتائج تدريس نصوص لمثل هذه الأفكار الرجعيّة في مؤسّساتنا التربوية على مجتمعنا ؟
من يزرع الشوك يجني الجراح:
لقد روّجت هذه الكتب ظواهر خطيرة في تونسنا العزيزة لخّصها المؤلّف فيما يلي:
- تكفير الدولة المدنية، باعتبارها طاغوتا يجب مقاومته واستباحة دم القائمين عليه.
- اعتبار الأحزاب السياسية من صنع الشيطان، فلا مكان إلا لحزب واحد هو “حزب الله” الذي تختلف تسميته بحسب الأطباق.
- اعتبار “القوميّة” و”الوطنيّة” تصوّرا جاهليا وذلك بهدف تشكيك الشباب في ولائهم للوطن والراية الوطنية.
وكانت تلك المنشورات التكفيرية الصدامية تدعو إلى:
- السيطرة على مفاصل الدولة وأجهزتها وخاصة الأمن والجيش بالتسلل إليهما.
- السيطرة على الجامعات والكليات.
- التمكّن من وسائل الإعلام.
- تأسيس الجمعيات الخيرية لنشر الدعوة الإسلاموية عبر المساجد خاصة حيث يتواجد ما يسمّونهم “رؤوس الدعاة”.
- تلقين الشباب أساليب انتداب الأتباع وتكوينهم على مراحل وتعبئتهم في تنظيمات سرية ليكونوا “رهائن التنظيم” ويقبلوا التضحية بالمال والعيال والنفس طوعا وبلا نقاش لأوامر القيادة.
- إقامة المعسكرات والتدرب على فنون الحِرَابَة، أي القتال.
وكل ذلك تأهبا لما يسمونه “يوم النصر الأعظم” لتحقيق “الانقلاب الإسلامي” للإطاحة بالدولة المدنيّة وإقامة الدولة “الدينية” وامتطاء كراسي الحكم.
إنّها كتبٌ تضرب الفكر النقدي وتطوّق عقول الشباب وتخدّرها ليسهل استقطابهم وتعبئتهم فَيَنْصَاعُوا بلا نقاش للأوامر. إنها كتبٌ تكفيرية روّجت “ثقافة الموت “، لا “ثقافة الحياة “. وكل ذلك موثق أيضا بأدلة في كتاب الأستاذ أحمد خالد.
ونتيجة لذلك تسلّل في نفس الفترة ذلك الفكر التكفيري إلى البرامج والكتب المدرسية في مادة التربية الإسلامية بمعاهدنا. ويظهر ذلك من خلال:
- إدراج “مسألة الخلافة” كأصل من أصول الدين أي أحد أركان العقيدة، لا باعتبارها أكبر مسألة خلافية في تاريخ الإسلام قد فرّقت المسلمين ودفعتهم إلى الاقتتال (هذا في برنامج التربية الإسلامية للسنة الخامسة ثانوي)، فلقنوا تلاميذنا أنّ “من مات ميتة جاهلية” قد مات كافرا. والقصد من ذلك هو ضرب دولة القانون ومؤسّسات النظام الجمهوري الذي يدرّس لتلاميذنا في السنة الرابعة ثانوي، ليُوهمهم أن ذلك النظام طاغوتي كافر.
والمتأمّل في تفاصيل ومفردات هذه المدوّنة الدينية – الثقافية التي غزت تونس في ثمانينات القرن العشرين عبر الكتب والمنشورات المسموح بترويجها من قبل السلطات الرسمية حينئذ وتلك التي أطلّت علينا بعد 14 جانفي 2011، يلاحظ تشابها كبيرا بينهما إلى حد التطابق على مستوى: المرجعيّات والقناعات والخطب والشعارات والممارسة…
ويكفي للتدليل عل صحّة ذلك ما ألفنا سماعه في المساجد والجوامع والقنوات والإذاعات من عبارات: الجهاد في سبيل الله (في إشارة إلى الهجرة للجهاد في سوريا) – دار الكفر – دار الإسلام – جهاد النكاح – ختان البنات – الطاغوت (في إشارة للأمن والحرس والجيش الوطني)…
وبالنسبة لتنظيمات ما بعد 14 جانفي 2011 ومنظّريها، فلم نعد نستمع لمفردات: “الإخوان المسلمون” و”حزب الله” و “الجمهورية الاسلامية الايرانية” و “مرشد الأمّة الاسلامية” و “الإمام الخميني” و “المهدي المنتظر” و “حسن البنّا” و “سيّد قطب” و “أبي الأعلى المودودي” و “سيدي الشيخ فلان وعلاّن”…، بل حلّت محلّها مدوّنة جديدة من أبرز مفرداتها: “أنصار الشريعة” و “جمعيّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” و “حزب التحرير” و “السلفيّة الجهاديّة” و “السلفيّة الدينيّة” و “تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي”…
أمّا جغرافيا فقد عوّضت “إيران” و “طهران” و “لبنان” و “بيروت” و “أفغانستان” و “كابول” و “باكستان”…، كل من: “الروحيّة” و “إمارة سجنان” و “بئر علي بن خليفة” و “الروحيّة” و “سيدي علي بن عون” و “جبل الشعانبي”… وآخرها تفجيرات متحف باردو يوم 18 مارس 2015 وتفجيرات النزل السياحي بمدينة سوسة يوم 26 جوان 2015 التي راح ضحيّتها عشرات السيّاح الذين قصدوا بلادنا للراحة والاستجمام رغم دقّة الظرف الاقليمي والدولي والله أعلم بما يخفيه لنا المستقبل القريب !
وأخيرا بالنسبة للقيادات فقد أصبح طبق التونسيّين اليوم بامتياز: “سيف الله بن حسين” (الشهير باسم “أبي عياض”) و “الخطيب الإدريسي” و “نصر الدين العلوي” و “كمال القضقاضي”… وضحاياه من شهداء الوطن ومناضليه الصادقين: “شكري بلعيد” والحاج “محمّد البراهي” وكل من “الطاهر العياري” و “سقراط الشارني”… وغيرهم من الشهداء الأمنيّين والعسكريّين الأبرياء، والقائمة تطول.
عموما أتى كتاب الأستاذ أحمد خالد ليثري المكتبة التاريخية ويُوثّق لمحطة هامة من تاريخ الثقافة التونسية المعاصرة. فقد استطاع في اعتقادنا صاحبه بالوثيقة والحجّة والبرهان أن يتجاوز دراسة الصراع السياسي الرسمي وغير الرسمي في تونس الثمانينات ليركّز بالأساس على مسألة الصراع الثقافي – الديني بالتعمّق في طرق وأساليب زرع الفكر التكفيري في ثمانينات القرن العشرين بتونس وتداعياته من خلال قراءة ببلوغرافية تحليلية لطوفان المنشورات التكفيرية المدعومة بالمال العام، امتدّ أثره إلى البرامج والكتب المدرسية الرسمية بمعاهدنا. وهو لعمري فكر جنينا ونجني إلى يومنا هذا بامتياز ثماره السلبية على البلاد والعباد في أكثر من ميدان في تونس ما بعد 14 جانفي 2011. وهو فكر لا يمكن في اعتقادنا اقتلاعه بسهولة وبدون آلام وأوجاع نظرا لكونه كالسّوس قد تغلغل في عقول وأفكار العديد من التونسيّين وخاصّة الشبّان منهم.
وإذا كانت النخبة السياسية الحاكمة وتحديدا الأستاذ محمّد مزالي قد “غضّ الطرف” عن دخول مثل هذه المنشورات والأدبيّات التكفيريّة المفجّرة إلى بلادنا في الثمانينات بسبب مغازلته للتيار الديني وتحديدا للاتجاه الإسلامي للمراهنة على خلافة بورقيبة إثر مرضه وشيخوخته وكثرة الكتل داخل القصر وخارجه…، فإنّه لا يمكن اليوم القبول بعودة مثل هذه الأفكار والثقافة الغريبة إلى بلادنا بعد سقوط النظام الدكتاتوري إثر ثورة الحريّة والكرامة.
أملي أن يجنّب الله بلادنا إلى الأبد هذه الأفكار وهذا النمط الثقافي الهدّام الذي بشّر به كثيرون في تونس خلال ثمانينات القرن العشرين ثمّ عاد إلى بلادنا بعد ثلاثين سنة بأكثر قوّة وعنف ودمويّة بعد 14 جانفي 2011.
[1] أحمد خالد: من مواليد مدينة سوسة سنة 1936. تحصّل على الإجازة في اللّغة والآداب العربيّة سنة 1961 ثمّ على دبلوم الدّراسات العليا من جامعة باريس سنة 1965 والتبريز فـي اللّغة والآداب العربيّة من جامعة باريس (دورة جوان 1967). شغل عديد الوظائف والمسؤوليات: مستشارا في التّربية والتّعليم لدى الوزير الأوّل (1971) – متفقّدا عاما للتّربية – مُدِير معهد بورقيبة للّغات الحَيَّة بِسُوسَة – رئيس بلديّة سوسة (1975-1980)- عضوا مؤسّسا للرّابطة التّونسيّة لحقوق الإنسان في سنة 1977- رئيس ديوان بوزارة الثّقافة (1981-1986)- عضوا بمجلس النّوّاب (1989-1991) – كاتب دولة للتّربية (1989-1990)- وزيرا للثّقافة والإعلام، ثمّ وزيرا للثّقافة (1990-1991)- سفيرا لتونس بالرّباط (ماي 1991- جويلية 1992)- سفيرا لتونس بموسكو (سبتمبر 1992- أوت 1996). بعد خروجه إلى التقاعد تفرّغ للتأليف والكتابة والنشاط الثقافي. له عديد المؤلّفات في الأدب والشعر والتاريخ والسيرة الذاتية باللغتين العربية والفرنسية.
:المراجع
- (1)
- (2)