أرشيفات التصنيف: تاريخ

جهاز الضابطيّة بالايّالة التونسيّة: دراسة لميلاد وتنظيم مؤسّسة أمنيّة قُبَيْلَ انتصاب الحماية الفرنسية (1861-1881):

 
جهاز الضابطيّة بالايّالة التونسيّة:          

د. ياسين عوني – باحث في التاريخ المعاصر –

 

جهاز الضابطيّة بالايّالة التونسيّة: دراسة لميلاد وتنظيم مؤسّسة أمنيّة قُبَيْلَ انتصاب الحماية الفرنسية (1861-1881):

مقدمة:

أجرى البايات الحسينيّون قبيل انتصاب الحماية جملة من الإصلاحات الجوهرية بالإيّالة التونسية. وكان الميدان العدلي والأمني من أبرز الميادين التي شملتها هذه الإصلاحات بإحداث جهاز ”الضّابطية“ سنة 1861، الذي اضطلع في جانب كبير من مهامّه بدور جهاز الشرطة في التكفّل بالبحث عن الجرائم وتتبّع مرتكبيها وإيقافهم وإحالتهم على مجالس الأحكام للنظر في تلك الجرائم المرتكبة، علاوة على مهامه القضائية، لا سيّما فيما يتعلّق بالمخالفات والجُنح…

ويهدف بحثنا هذا بالأساس إلى تسليط الضوء على مؤسّسة لعبت دورا هاما في التاريخ الحديث والمعاصر للبلاد التونسية وحاولت بواسطتها السلط فرض سيطرتها الأمنيّة على المجتمع التونسي.

وقد قسّمنا البحث إلى محورين رئيسيَيْنِ، أولهما تعريف جهاز الضابطية لغة واصطلاحا، وثانيهما الآليّات القانونيّة لعمل هذا الجهاز وتنظيماته وأهميته وظروف إلغائه إثر دخول البلاد التونسية مرحلة جديدة من تاريخها بانتصاب الحماية الفرنسية وبسط سيطرتها على كافة المؤسّسات البايلكية التونسية بداية من سنة 1881.

متابعة قراءة جهاز الضابطيّة بالايّالة التونسيّة: دراسة لميلاد وتنظيم مؤسّسة أمنيّة قُبَيْلَ انتصاب الحماية الفرنسية (1861-1881):

Share This:

طلبة القلعة الكبرى من خلال سجلات ترسيم الدارسين في جامع الزيتونة

 

طلبة القلعة الكبرى من خلال سجلات ترسيم الدارسين في جامع         الزيتونة      

 د. حسن المناعي

الاسم واللقب: حسن المناعي

 تاريخ و مكان الولادة: 22/11/1949

الشهائد العلمية: دكتورا دولة في العلوم الإسلامية

 الصفة:أستاذ تعليم عالي

 المؤسسة التعليمية:جامعة أم القرى بمكة المكرمة-المدينة المنورة-جامعة الإمام محمد ابن السعود بالرياض –كليات التربية سلطة عمان-جامعة الزيتونة بتونس

 

 

hassen

طلبة القلعة الكبرى من خلال سجلات ترسيم الدارسين في جامع الزيتونة

مقدمة :

أتاح لنا البحث في سجلات ترسيم طلبة جامع الزيتونة التي انتقلت من مشيخة جامع الزيتونة إلى عمادة الجامعة الزيتونية فالكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين فجامعة الزيتونة اليوم، وتحديدا بخزائن ” وحدة بحث تاريخ جامعة الزيتونة “، يمكن من خلال وثائقها استخلاص بعض الملاحظات، على الرغم من شحّ المعطيات التي توفّرها لنا سجلات ترسيم طلبة الجامع الأعظم بحاضرة تونس.

وبلا ريب فإنّ تسليط الضوء على مجمل الأحوال التعليمية والاجتماعية الزيتونية والتي انتجت على سبيل المثال النخب العلمية أصيلة منطقة القلعة الكبرى، أمر ذو بال علميا
وتاريخيا، ويمكّن من التعرّف على هوية الطالب الزيتوني القلعي من خلال وثائق الإدارة الزيتونية وعلى مدى تأثرها بمحيطها التاريخي وبفضائها الجغرافي ؟
متابعة قراءة طلبة القلعة الكبرى من خلال سجلات ترسيم الدارسين في جامع الزيتونة

Share This:

قراءة في وثيقة تاريخيّة بقلم عادل بن يوسف: كليّة الآداب والعلوم الانسانية بسوسة

<< En cours de construction>>   construction

 مراسلة صحفيّة حول زيارة المقيم العام الفرنسي “بوايي دي لاتور” لجهة الساحل يوم 13 أوت 1954

journal1

 

تمثّل الصّحافة مصدرا من المصادر التاريخية التي لا يمكن للمؤرخين والباحثين في شتى الأغراض والاختصاصات الاستغناء عنها. وتزداد أهميّة هذا الصنف من المصادر التاريخية إذا ما تعلّق الأمر بالتاريخ الجهوي والمحلّي، الذي في غياب صحف ودوريّات صادرة بالجهة يبقى مغمورا إذا ما استثنينا بعض الشذرات والومضات المتناثرة في أركان محدودة للغاية داخل الصّحف الوطنية الصادرة بالمركز، أي الحواضر والعواصم.

غير أنّه يمكن لهذه الصّحف أن تتحوّل إلى مصدر هامّ في عمليّة التأريخ للمحلّي إذا ما تعلّق الأمر بحدث ذي طابع وطني أو متصل بشخصيّة وطنية لامست أو اتصلت من قريب أو بعيد بالجهوي والمحلّي مثل زيارة ملك أو أمير أو وليّ عهد أو رئيس…، أو شخصيّة سياسية أو عسكرية بارزة لمقاطعة أو جهة ما.

وفي مثل هذه المناسبات تقوم الصّحف الوطنية الصادرة بتونس، سواء الناطقة منها باللغة العربية أو الفرنسية بتغطية زيارات البايات والمقيمين العامين ورؤساء الحكومات وبطبيعة الحال المقيمين العامين الفرنسيّين لجهة أو مدينة أو قرية داخل الإيّالة التونسية بين 1881 و 1956.

وبمحض الصدفة عثرنا أثناء تصفّحنا لجريدة “الصّباح” التونسية الغرّاء في عدديها الصادريْنِ يومي 14 و 15 أوت 1954 على مراسلة صحفيّة مطوّلة لمبعوث الجريدة الخاص إلى جهة الساحل بعنوان: ” الجنرال دي لاتور المقيم العام لفرنسا بتونس يُستقبل أثناء زيارته لبلاد الساحل التونسي استقبالا حارّا[i]. وهي بمثابة تغطية للزيارة الرسمية للمقيم العام لفرنسا بتونس، الجنرال “بيار- بوايي دي لاتور- دي مولان” Pierre Boyer De Latour Du Moulin “[ii]  (من 30 جويلية 1954 إلى 31 أوت 1955 للجهة.

[i] “الجنرال دي لاتور المقيم العام لفرنسا بتونس يُستقبل أثناء زيارته لبلاد الساحل التونسي استقبالا حارّا”، جريدة الصّباح عدد: 805 ليوم السبت 15 ذي الحجّة 1373 هجري، الموافق ليوم 14 أوت 1954 وعدد: 806 ليوم الأحد 16 ذي الحجّة 1373 هجري، الموافق ليوم 15 أوت 1954.

[ii] من مواليد “ميزون لافّيت”Maisons-Laffitte ” في 18 جوان 1896. في سنة 1914 جُنّد في الحرب العالمية الأولى وهو لم يتجاوز 18 سنة وبقي في جبهات القتال إلى غاية سنة 1916. وبطلب منه نُقل إلى الفوج الأوّل للرماة المغاربة “1er Régiment de Tirailleurs Marocains“. وبنهاية الحرب عمل بالجيش الفرنسي لمدة قصيرة بالجزائر قبل أن يلتحق بالمدرسة الحربية “سان مايكسان “Saint-Maixent”. وبطلب منه تمّت نقلته إلى المغرب الأقصى حيث عمل لمدة 25 سنة بمصلحة شؤون الأهالي بالمغرب. وفي نهاية الثلاثينات ألحق بديوان المقيم العام الفرنسي بالمغرب، الجنرال “شارل نوقاس “Charles Nouguès”. وباندلاع الحرب العامية الثانية ترأس الوفد الرابع للرماة المغاربة “4e Régiment de Tirailleurs Marocains” وشارك في حملة تونس (بين نوفمبر 1942 وماي 1943) وتحرير جزيرة كورسيكا وجزيرة “آلب “l’Île d’Elbe“. وفي سنة 1944 شارك في عمليّات الإنزال بالجيش الأول لتحرير فرنسا وتألّق في معارك تحرير مرسيليا ومنطقة “الفوج” Vosges” بمقاطعة “اللوران” Lorraine” وبمقاطعة “الألزاس “Alsace” قبل أن يجتاز نهر الراين. وفي سنة 1944 ارتقى إلى رتبة عقيد. وفي سنة 1946 إلى رتبة جنرال كتيبة. ومن سنة 1947 إلى سنة 1949 عمل بالهند الصينية في العسكرية والمدنية كمفوّض عام للجمهورية بمقاطعة الكوشنشين ” Cochinchine“. إثر ذلك التحق ثانية بالمغرب الأقصى كمساعد للمقيم العام الجنرال “ألفونس جوان “Alphonse Juin”. وفي سنة 1952 كلف بقيادة جيش الاحتلال الفرنسي بالنمسا. وفي سنة 1954 عيّن بإدارة الجيش الفرنسي بتونس. وفي 30 جويلية وعشية قدوم رئيس الحكومة بيار منداس فرانس إلى تونس عيّن مقيما عاما لفرنسا بالبلاد التونسية.

sans-titre3

 الجنرال “بيار- بوايي دي لاتور- دي مولان” Pierre Boyer De Latour Du Moulin

 

وقد شدّنا منذ السطور الأولى المضمون وخاصّة الأسلوب الذي كُتبت به هذه المراسلة. يضاف إلى ذلك أهمّية الأحداث الواردة بها.

ونظرا للقيمة التاريخية للوثيقة، رأينا من الواجب نقلها وعرضها على القرّاء الكرام وتناولها بالشرح والدراسة والتحليل، أملا في أن تمكّن القرّاء الكرام من فهم الواقع السياسي والإداري والوطني والاجتماعي… وحتى النفسي لهذه الجهة من البلاد وسكّانها وأهمّ الأحداث التي جدّت بها بعد مرور 62 سنة على حصوله.

أولا: طبيعة الوثيقة:

تتمثّل الوثيقة في مقالين صحفيَيْنِ صادرين بجريدة “الصّباح” ليومي السبت 14 أوت 1954 والأحد 15 أوت 1954. الأوّل في حوالي 03 صفحات والثاني في حدود الصفحتين.

أمّا صاحب المقالين فهو المبعوث الخاصّ لجريدة “الصّباح” إلى جهة الساحل، ولكنه للأسف لم يذكر اسمه، بل اكتفت الجريدة بذكر: ” لمبعوث – الصّباح – الخاصّ “. وحسب هذه العبارة يبدو أنّ المراسل أجنبيّ على الجهة وأوفِدَ خصّيصا من العاصمة للقيام بتغطية الحدث بدليل قيامه بالخلط في كتابة أسماء بعض أعلام الجهة. وكدليل على ذلك ذكره: “(…) وأخذ الكلمة السيد عامر ونّاس “ والصّحيح هو ونّاس بن عامر رئيس الشعبة الدستورية بالقلعة الكبرى. وقوله ” (…) ثمّ تلاه العدل الشيخ محمّد بن عبد السلام بوقديدة (…)” محمّد بن عبد السّلام بوقدّيدة ” والصّحيح هو محمّد بن عبد السّلام… وغيرها من الأخطاء التي لا يمكن أن يرتكبها مراسل مقيم بالجهة !

ثانيا: الإطار التاريخي للوثيقة:

بعد اندلاع الكفاح المسلّح بتونس ضد المستعمر الفرنسي في 18 جانفي 1952 الذي تواصل على امتداد أكثر من سنتين ونصف، عَرِفَتْ خلاله البلاد التونسية كل أشكال المآسي والمحن: فرض حضر التجوّل أو منع الجولان، حالة الحصار، إيقافات، تنكيل، ترهيب، محاكمات، إعدامات، الزجّ بآلاف التونسيّين في السجون والمحتشدات والمنافي (داخل البلاد وخارجها) وارتكاب السلطات الفرنسية الرسمية وغلاة الاستعمار الفرنسي (عن طريق تنظيماتهم السرّية) لأبشع الجرائم في حقّ الوطنيّين وعامّة التونسيّين العزّل زمن حكم المقيم العام الفرنسي “جان دي هوت كلوك “Jean De Hautecloque” (13 جانفي 1952-2 سبتمبر 1953)

s4

“جان دي هوت كلوك “Jean De Hautecloque

 

وخلفه “بيار فوازار “Pierre Voisard” (2 سبتمبر 1953- 30 جويلية 1954)…، وفّق الشعب التونسي في اقتلاع استقلاله الداخلي بعد مفاوضات عسيرة قادها الحزب الدستوري الجديد وحكومته التفاوضيّة الأولى، تُوّجت بقدوم رئيس الحكومة الفرنسيّة، الأستاذ بيار منداس – فرانس إلى تونس وإعلانه رسميا في قصر قرطاج يوم 31 جويلية 1954 عن اعتراف فرنسا بالاستقلال الداخلي لتونس والشروع في مفاوضات للوصول بها إلى الاستقلال التامّ.

s5 mendes
  محمّد الأمين باشا باي بيار منداس فرانس “Pierre-Mendès-France

 

وقد تلت هذا التحوّل الهام والتاريخي في العلاقات التونسية- الفرنسية عدة إصلاحـات سياسية كان من أهمّها تعيين مقيم عام جديد الجنرال “بيار- بوايي دي لاتور- دي مولان “Pierre Boyer De Latour Du Moulin” (من 30 جويلية 1954 إلى

31 أوت 1955). وفي تعيين عسكريّ برتبة جنرال في أعلى منصب سياسي بتونس رسالة أراد أن يمرّرها رئيس الحكومة الجديد إلى فرنسيّي تونس وفي مقدمتهم غلاة الاستعمار أو حزب المتفوّقين “Les Prépondérants” ومفادها أنّ السلطات الفرنسية موافقة، بل مقتنعة تمام الاقتناع بالاستقلال الداخلي لتونس ولا ترى مانعا في الانتقال بها إلى مرتبة الاستقلال التام.

وفي 07 أوت 1954 تشكّلت حكومة تفاوضيّة ثانية برئاسة السيّد الطاهر بن عمّار، ضمّت إلى جانب المديرين الفرنسيّين الأربعة المكلّفين بتسيير إدارة التّعليم والماليّة والبريد والأشغال العموميّة، خمس شخصيات تونسيّة مستقلّة وأربعـة ممثّلين عن الحزب الدّستوري الجديد وهم الصادق المقدّم (العدل) الهادي نويرة (التّجارة) والمنجي سليم ومحمّد المصمودي كوزيري دولة مكلّفَيْنِ مع عزيز الجلّولي بالتّفاوض، إضافة إلى الاشتراكي الشّاذلي رحيّم كوزير للشّغل.

leaders

 الطاهر بن عمّار والبعض من أعضاء حكومته التفاوضية الثانية
(07 أوت 1954-09 أفريل 1956): الصّادق المقدّم – الهادي نيورة – المنجي سليم – محمّد المصمودي والعزيز الجلولي.

 وفي فرنسا، أصدر منداس فرانس تعليماته في 21 جويلية 1954 بنقل الزعيم الحبيب بورقيبة من جزيرة “لاقروا” إلى قصر “لافرتي” Château de La Ferté” ببلدة “أميلي “Amilly” الواقعة بمقاطعة “اللوارِي “Loiret” عل 110 كلم من باريس. وفي 4 سبتمبر 1954 أصدرت السلطات الفرنسيّة أمرا يلغي قرار حلّ الحزب الدستوري الجديد.
h7

الزعيم الحبيب بورقيبة بمنفاه بجزيرة لا قروا بفرنسا
(بين 24 ماي و 21 جويلية و 1954)

 كما سمحت له بالتّنقّل داخل التراب الفرنسي ممّا مكّنه من متابعة سير المفاوضات حول الاستقلال التامّ وتوجيهها… وغيرها من الإجراءات السياسية التي تهدف إلى إدخال نوع من الدفء على العلاقات بين السلطات الفرنسية والوطنيّين وعامة التونسيّين بعد أكثر من سنتين من التوتّر الذي ميّزها منذ خيبة الأمل التي أصابتهم تجاه فرنسا إثر فشل تجربة الحوار الثاني في سنة 1950 بسبب تشبثها بمبدأ السيادة المزدوجة في ردّها عن مذكّرة 31 أكتوبر 1951 للحزب في مذكّرة 15 ديسمبر 1951 الشهيرة.

ومن مظاهر هذا الانفراج كذلك قرار المقيم الجديد لفرنسا بتونس القيام بجولة داخل مناطق وجهات الإيّالة التونسية مرفوقا بطاقم إداري وعسكري رسمي وشبه رسمي رفيع المستوى. فبعد جولة في تونس العاصمة وضواحيها كانت أول وجهة لـ “بيار بويي دي لاتور” هي جهة الساحل.

ويمكن تفسير اختيار المقيم العام لهذه الجهة بالذات بعدة عوامل من أهمّها الوزن السياسي لها لانتماء جلّ رموز الحركتين الوطنية والنقابية وأعضاء الحكومة التونسية لهذه الجهة، إضافة إلى وزنها الديمغرافي (قرابة خمس سكّان المملكة) وكذلك الشأن بالنسبة للجاليات الأوروبية وتحديدا الجالية الفرنسيّة المقيمة بمدن وقرى الساحل، لا سيّما بعاصمة الجهة الرابعة ومركز المراقبة المدنية، جوهرة الساحل، مدينة سوسة (قبل إحداث مراقبة مدنية ثانية بالمهديّة رسميا بموجب أمر 27 ماي 1943 وعمليّا منذ سنة 1948): 7.372 ساكن فرنسيّ من بين 10.164 أوروبي من مجموع 48.172 ساكن في سنة 1956[i]، إضافة إلى وزنها الاقتصادي والاستراتيجي – العسكري في النظام الاستعماري

الفرنسي بتونس: ميناء سوسة التجاري- وزنها في إنتاج وتصدير زيت الزيتون والحبوب والحلفاء… إلى الخارج وعديد الأنشطة الصناعية العصريّة منها و التقليدية.

يضاف إلى كل هذه العوامل، عامل آخر يعدّ الأهمّ في اعتقادنا وهو “ترميم” أو “جبر” الحالة النفسيّة “L’Etat d’esprit” للتونسيّين بعد محنة المقاومة المسلّحة وما رافقها من محن وآلام وأحزان… وزفّ بشرى رفع منع الجولان بالجهة من جهة وطمأنة الأوروبيّين الذين تأثروا سلبيا أيّما تأثر بالإعلان رسميّا عن الاستقلال الداخلي لتونس ومعارضتهم لهذا القرار وتوعّد الغلاة منهم بعرقلة المفاوضات التونسية- الفرنسية من أجل ظفر البلاد باستقلالها التامّ من جهة أخرى.

وتأكيدا لذلك رافق نصّ المراسلة وبالبند العريض إعلانا يحمل عنوان: “إعلان رفع حالة الحصار ببلدان الساحل”، فيما يلي نصّه:

” بإذن من المقيم العام لفرنسا بتونس تقرّر ابتداء من الجمعة 13 أوت 1954 رفع منع الجولان بالمراقبات المدنية التالية: سوسة – المهديّة. أعلمنا بهذا جناب المقيم العام أثناء حلوله ببلدة المكنين “[i].

وعموما وعلى الرغم من كونها كانت تحمل عنوان “زيارة استطلاعيّة”، فإنّ في زيارة المقيم العام الفرنسي لجهة الساحل في هذا الظرف بالذات من تاريخ تونس أكثر من رسالة، تريد الإدارة الرسمية الفرنسية إبلاغها إلى كل من الوطنيّين بدرجة أولى وسائر السكّان التونسيّين من جهة ثانية، وإلى الأوروبيّين وفي مقدمتهم المعمّرون وغلاة الاستعمار الفرنسي في تونس من جهة أخرى. وفي درجة ثانية فإنّ المقيم العام الفرنسي الجديد بتونس كان يريد توجيه رسالة إلى السلطات الفرنسيّة بباريس ومراكز القرار والضغط الاستعماري بها. ولمسنا بوضوح عديد الإشارات من محتواها في برنامج زيارته لجهة الساحل.

ثالثا: نصّ الوثيقة:

وردت المراسلة بالعنوان المذكور سالفا موزّعة على جزأين: جزء أوّل صادر بجريدة “الصّباح” ليوم السبت 15 ذي الحجّة 1373 هجري، الموافق ليوم 14 أوت 1954 وجزء ثاني صادر بنفس الجريدة ليوم الأحد 16 ذي الحجّة 1373 هجري الموافق ليوم الأحد 15 أوت 1954. أمّا من حيث الكمّ فقد صدر الجزء الأوّل موزعا في حوالي صفحتين هما الصفحة الأولى والثالثة. أمّا الجزء الثاني فقد صدر في حدود صفحتين (موزّع بين الصّفحتين الثالثة والرابعة من نفس الجريدة مع الاحتفاظ بنفس العنوان الوارد بالصفحة الأولى من العدد الأوّل وإضافة رقم (2) أسفله[ii].

وللإشارة نذكر أنه كانت هناك مصلحة صلب الإقامة العامة الفرنسية بتونس تقوم باقتطاع وترجمة جلّ المقالات الصادرة بالصّحف والدوريات العربية وعرضها على مدير مصلحة الشؤون السياسية. وقد ترجم أعوان هذه المصلحة مقالي الحال تحت عنوان:

 « Le Général De Latour, Résident Général en Tunisie en tournée dans la région du Sahel, est accueilli chaleureusement »[iii].

 

وفيما يلي نصّ المقالين كما وردا من حيث الترتيب وبدون تنقيص أو إضافة:

journal2

 – الجزء 1: الجنرال دي لاتور المقيم العام لفرنسا بتونس يستقبل أثناء زيارته للساحل التونسي استقبالا حارا

المصدر: جريدة “الصّباح” ليوم السبت 15 ذي الحجّة 1373 هجري، الموافق ليوم 14 أوت 1954.

لمبعوث – الصّباح- الخاصّ.

 قام جناب المقيم العام بتونس الجنرال دي لاتور أمس برحلة استطلاعية بجهة الساحل، و قد تحرك الركب السفيري من تونس على الساعة السادسة صباحا مصحوبا بكل من الم. روفيليو رئيس قسم الصّحافة بالإقامة العامة والم. نولي متفقد المراقبات المدنية، والكومندان بي من الإقامة العامة و اليوتنان[i] السيّد الصادق بن سعيد الياور[ii] الخاص لجناب المقيم.

وكانت المرحلة الأولى لهاته الرحلة بلدة القلعة الكبرى، وفي مفترق الطريق المؤدي إلى سوسة وأكودة، استقبل المقيم العام ومرافقوه من طرف جناب عامل سوسة أمير الأمراء سيدي الطيّب السقا و الم. كليمان المراقب المدني بها، والقبطان[iii] سان فوزان رئيس الجندرمة بها. هذا وتوجّه الركب السفيري، بعد تقديم الشخصيات المذكورة إليه، توجّه إلى القلعة الكبرى مارا بأكودة حيث استقبل من طرف الأهالي بكل حماس وترحاب، فصدعت

الأناشيد الحماسية والهتافات بحياة الزعيم الحبيب بورقيبة وجلالة الملك المعظم و الم. منداس فرانس والجنرال دي لاتور. ونظرا لضبط البرنامج وضيق الوقت لم يتسنّ للمقيم الوقوف بهاته البلدة ومخاطبة الأهالي إلا أنّ ردّ سلامه الحار وتحياته وابتساماته العريضة كانت جوابا كافيا عمّا يحمله من أمل معه.

في القلعة الكبرى: وعند وصول الركب السفيري إلى القلعة الكبرى على الساعة الثامنة اتجهت السيارات نحو ساحة البلدة، أمام إدارة البريد وكانت مزدانة بالأعلام، هاتفة بحياة الزعيم بورقيبة وحياة جلالة الملك المعظم والم. منداس فرانس والم. دي لاتور، ناشدة الأناشيد الحماسية. وبعد أن استعرض جناب المقيم فرقتين من جنود المظلاّت توجه وصحبه إلى المنصة التي أقيمت بهذا المكان و كانت مزدانة بالأعلام و مفروشة بالزرابي. هذا وكانت الهتافات والتصفيق الحاد يتصاعدان في هذا الجوّ المرح. ثم جاء دور الخطب، فتناول الكلمة السيد علي بيّار كاهية القلعة وألقى خطابا وجيزا رحّب فيه بالزائر العظيم ونوه بخصاله، وطلب منه أن يبلغ إلى جلالة الملك المعظم أسمى عبارات تعلق الشعب القلعي به. ثمّ تلاه العدل الشيخ محمّد بن عبد السلام بوقديدة (والصّحيح هو محمّد بن عبد السلام) الذي ألقى خطابا قيما تحدّث فيه عن السرور العميق الذي أدخلته زيارة جناب المقيم على أهالي القلعة الكبرى. وسننشر في عدد الغد نصّ هذا الخطاب. وبعد ذلك أخذ الكلمة السيّد عامر وناس (الصحيح هو وناس بن عامر) نيابة عن الشعبة الدستورية وألقى خطابا سننشره بعد الغد.

خطاب المقيم العام: وعلى إثر خطاب السيّد ونّاس أخذ الكلمة جناب المقيم العام وقال: ” إني لمسرور جدا بهذه الزيارة للقلعة الكبرى وأن حضوركم هذا ليشجعني على العمل معكم، في كنف الهدوء والنظام لتحقيق الاستقلال الذاتي للشعب التونسي في نطاق البرنامج الذي سطره الرئيس منداس فرانس في الخطاب التاريخي الذي ألقاه يوم 31 جويلية بين يدي عاهل البلاد بقصر قرطاجنة. وإني لأفهم من حضوركم هذا، أنكم أدركتم أن السياسة الجديدة التي دشنها الم. منداس فرانس، سياسة جديدة لم تعرفها البلاد لحد الآن “. وقد قوبل هذا الخطاب الوجيز بتصفيق حاد وهتافات عديدة.

في حمّام سوسة: في حدود الساعة الثامنة والنصف توجّه الركب السفيري إلى بلدة مساكن مارا من حمام سوسة. وهناك كانت الجماهير غفيرة، رافعة للأعلام التونسية فاستقبلت المقيم العام بهتافات وتصفيق حاد. وهنا أيضا لم يتمكن المقيم من الوقوف ومخاطبة الجماهير نظرا لضيق الوقت. إلا أنّ جناب المقيم لم يبخل على أبناء حمام سوسة بتحياته الباسمة.

في مساكن: كان وصول الركب السفيري إلى بلدة مساكن على الساعة التاسعة فاستقبله جناب الكاهية السيد محمود العقبي، و بعد أن استعرض المقيم العام فرق الجنود، واسترشد عن أحوالهم، توجه الركب إلى إدارة الكهاية. وكانت المدينة مزدانة بالأعلام التونسية والفرنسية، وأنغام الطبول والمزامير تصدح والبشر ظاهر على الوجوه. وبعد الاستماع إلى النشيد الوطني الفرنسي والسلام الملكي من طرف الزكّارين صعد جناب المقيم على المنصة التي أعدت بصحن إدارة الكهاية واستمع إلى الخطب التي ألقاها كل من

جناب الكاهية والسيد قاسم المحجوب نيابة عن الشعبة الدستورية والتي سننشرها غدا إن شاء الله. ثم رد جناب المقيم بالخطاب التالي:

” إني أشكركم شكرا جزيلا على هذه الخطب التي تفضلتم بها وذلك لأنها تثبت لي أن الأهالي فهموا جيدا تصريح الحكومة الفرنسية عندما أتى رئيسها إلى قصر قرطاجنة للإدلاء به بين يدي جلالة الملك، ذلك التصريح الذي يخوّل للشعب التونسي استقلاله

 الداخلي و لا شك في أنه أثناء المفاوضات التي ستجرى في القريب العاجل سيقع أخذ و رد، ولكن إذا ما كنا جميعا مشبعين بحسن النية، و إذا ما أردنا جميعا الوصول إلى نتيجة ملموسة، فإني على يقين من أن تلك المفاوضات ستؤتي أكلها و سنجد أنفسنا في جوّ جديد، و أمّا من جهتي فإني أتشبع بهاته الأفكار أعني أنكم ستجدون مني كل مساندة حتى نصل في القريب العاجل إلى تسوية المشكل التونسي وذلك في النطاق المعلوم وفي خلال بضعة شهور سنجد أنفسنا متحدين في جو فقدته البلاد منذ زمن بعيد “.

وعلى إثر انتهاء هذا الخطاب الذي قوبل بالتصفيق والهتاف، قدّم جناب الكاهية الشخصيات المحلية ثم قدماء المحاربين الذين حيّاهم المقيم تحية خاصّة وقد تفضّل جناب المقيم بإهداء مقدار عشرين ألف فرنك إليهم وعشرة آلاف فرنك إلى الجمعية الخيرية الإسلامية، هذا وأثناء كل هاته المراسم ما انفكّ الشعب يهتف بحياة الزعيم الحبيب بورقيبة وجلالة الملك المعظم و الم. منداس فرانس والجنرال دي لاتور. ثم توجّه الركب المقيمي إلى سوسة وقد وصلها على الساعة العاشرة.

كاهية مساكن بجانب المقيم العام:

استعرض كاهية مساكن مشاكل هذه الجهة الفلاحية قائلا:

” لقد قوبلت تصريحاتكم الأخيرة بالتأييد الكامل من طرف جميع السكّان الذي يعرفون حقّ المعرفة أنّ مشاكل أكيدة ومختلفة تنتظركم وتجلب اهتمامكم ولذا فإنهم التزموا بأن لا يعملوا شيئا من شأنه تعطيل نشاطكم. وهذا هو الدرس الذي ينبغي استخلاصه من مظاهر الصداقة المشجّعة التي شاهدتموها في هذا الصّباح “.

في سوسة:

اكتست مدينة سوسة حلل الفرح والسرور. وكانت الشوارع مزدانة بالأعلام التونسية والفرنسية، وقد انتصبت فرق الجيش أمام قصر البلدية تتقدمهم موسيقاهم – ولما وصل المقيم العام إلى المدينة نزل من سيارته واستعرض الجنود بعد عزف النشيد الوطني الفرنسي والسلام الملكي – وقد استقبله الم. موني كاهية رئيس البلدية وكان بهو القصر البلدي مزدانا بالأعلام وعريش النخيل و مبسوطا بالزرابي إلاّ أننا لاحظنا أن البلدية لم تقم بكامل واجبها في هذه المناسبة حيث أنه لم يقع تزيين القاعة الكبرى التي جرت فيها الحفلة ولم تضع منصة كانت إقامتها لازمة. هذا وقد تعالت الهتافات بحياة الزعيم بورقيبة وملك البلاد المفدى والم. منداس فرانس، واشتد التصفيق، وعلت الأناشيد الحماسية وعندما دخل جميع المدعويين إلى القاعة الكبرى أخذ كاهية المراقب المدني يقدم للمقيم العام الشخصيات المحلية والمتوظفين، رجال الشريعة المطهّرة، ونواب المؤسّسات الصناعية والتجارية والفلاحية والنقابية ثم نواب الجالية الفرنسية، وقدماء المحاربين الذين خاطبهم جناب المقيم بلهجة أبوية واستفسر عن أحوالهم.

وممّا تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد هو قوله إلى السيد عامر عياد، نائب قدماء المحاربين: ” إنني لا أريد أن ينزل أولائك الذين جاهدوا إلى الفاقة وأنّ المحاربين التونسيين هم اخوتي “.

ثمّ قدّم إلى المقيم نوّاب الجالية الاسرائيلية فأعضاء الجمعية الخيرية، فالسيد بوراوي عبد العالي رئيس ودادية عمّال الرصيف فمشائخ التراب وغيرهم. ثم جاء دور الخطب فتقدم الم. قتنوار (Gouttenoire)[i] وألقى كلمة ارتجالية وجيزة عبّر فيها عن شكره وترحيبه بجناب المقيم وذكر أنه سيمكن للأهالي أن يعملوا من جديد في كنف الهدوء والنظام – ثمّ تقدم جناب العامل السيد الطيّب السقا وألقى خطابا مستفيضا عبّر فيه عن إحساسه وعن الأماني الكبيرة التي يضعها الشعب الساحلي في جناب المقيم حتى يتم على يديه ما تصبو إليه الأمة التونسية من رفاهة وسعادة- وقد قوبل هذا الخطاب بتصفيق حاد وكانت الهتافات تتصاعد بقاعة البلدية منادية بحياة الزعيم الحبيب بورقيبة وجلالة الملك والم. منداس فرانس. ثمّ تقدم السيد الهادي بوسلامة رئيس الحجرة المختلطة للوسط وألقى كلمة وجيزة قدم فيها لجناب المقيم باسم زملائه بالحجرة، أحرّ عبارات الترحيب والامتنان.

وبعده أخذ الكلمة السيّد محمّد الغنوشي نيابة عن الشعبة الدستورية وسننشر خطابه غدا. ثمّ تقدّم فضيلة الشيخ سيدي محمّد القروي قاضي سوسة وألقى خطابا قيّما طالب فيه بالعمل الفعلي وليس بالأقوال. وقد لاحظنا انسحاب الفرنسيّين عند الشروع في إلقاء الخطب. ثمّ دخل المقيم العام إلى مكتب رئيس البلدية حيث استقبل الممثلين لجميع المنظمات القومية ودارت بينهم محادثات وجيزة تعرض أثناءها الممثلون للرأي العام إلى جميع المشاكل الحاضرة، وقد وعدهم جناب المقيم بالنظر فيها بعين الاعتبار.

ثمّ تناول الكلمة جناب المقيم العام وردّ على الخطاب وممّا قاله:

 ” يجب أن نشمّر عن ساعد العمل حتى ننجز ما وعدنا به. وإني لأؤمن بالعمل الإيجابي لا بالأقوال وإني لست بمهدم بل أومن بالتشييد وأعمل له وإذا أردتم فإنكم ستمدون لي يد المساعدة ونعمل جميعا يدا في يد لصالح بلدينا “.

هذا وقد تبرّع جنابه على قدماء المحاربين بمقدار أربعين ألف فرنك وعلى الجمعية الخيرية بمقدار عشرة آلاف فرنك. وبعد خروجه أخذت الشبيبة السوسية تنشد الأناشيد الوطنية “حماة الحمى” وغيرها، وتهتف بحياة زعماء الأمة وملكها المفدى.

وعند خروج الشبيبة أخذت الشبيبة السوسية تنشد الأناشيد الوطنية “حماة الحمى” وغيرها وتهتف بحياة زعماء الأمّة وملكها المفدّى. ثمّ توجّه الركب إلى إدارة عمل سوسة حيث استراح الجميع فوزّعوا المبرّدات والحلويات.

في المنستير: في حدود الساعة الحادية عشرة توجه الركب إلى المنستير. فاستقبل خارج صقانس من طرف جناب عامل المنستير السيّد أحمد الزاوش و الم. قروسن المراقب المدني. هذا وقد عُلّقت لافتات بعدة أماكن من المنستير كُتب عليها: ” مسقط رأس بورقيبة يرحّب بمقدم نائب فرنسا “، ” يحيا الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة “، يحيا منداس فرانس – يحيا الجنرال دي لاتور- تحيا تونس مستقلة – يحيا جلالة الملك – الثقة بوزارة بن عمّار “.

هذا وقد اجتمعت جماهير غفيرة أمام البلدية واستقبلت المقيم العام بالهتاف والتصفيق وبعد كلمات الترحيب والتحية أجاب المقيم بنفس الأفكار التي عبر عنها سابقا. وما جاء فيه: ” إنني سأسافر يوم الاثنين القادم بصحبة الرئيس ابن عمار إلى باريس لقطع الخطوات الأولى حتى تتمكن مختلف اللجان من العمل ووضع الاتفاقيات وختاما أطلب منكم جميعا أن تهتفوا جميعا بحياة فرنسا، وحياة جلالة الباي، و حياة تونس “.

ثمّ تناول الحاضرون المبرّدات، وبعد فترة وجيزة انتظم الركب المقيمي وتوجّه إلى ثكنة المنستير حيث تناول المقيم العام وحاشيته طعام الفطور. وعلى الساعة الثانية والنصف زوالا توجه الركب إلى جمّال.

وكان كل ما مرّ ببلدة إلا واستقبلته الجماهير هاتفة ومصفّقة. وقد لاحظنا ببلدة الداموس، تحت شمس محرقة حقا عشرات من فتيات القرية يهتفن بحياة الزعيم الحبيب بورقيبة وجلالة الملك المعظم والجنرال دي لاتور، والعرق يتصبّب من جباههن وهنّ فرحات مرحات “.

– الجزء 2: الجنرال دي لاتور المقيم العام لفرنسا بتونس يستقبل أثناء زيارته للساحل التونسي استقبالا حارا

المصدر: جريدة “الصّباح” عدد 805 ليوم الأحد 12 ذي الحجّة 1373 هـ الموافق ليوم 15 أوت 1954.

لمبعوث – الصّباح – الخاص.

في جمّال:

 وصل الركب إلى جمّال وقد زيّنت شوارع البلدة بالأعلام التونسية والفرنسية. وكانت أقواس النصر الكبيرة تضيف إلى هذه الزينة المخضرّة لونا نره بالطرق التي مررنا بها. وكانت الجماهير غفيرة قادمة من القرى المجاورة كزرمدين وبني حسّان وعميرة وغيرها.

فاستقبل الركب بالتصفيق الحارّ والهتاف المعهود. وكان المقيم العام واقفا في سيارته المكشوفة يردّ التحيّة على الجماهير وهو بثغر باسم يلوّح بيده يمنة ويسرة.

ثمّ وقف الركب أمام إدارة العمل وهناك ألقى جناب العامل الحبيب فرحات الخطاب التالي:

 خطاب السيّد الحبيب فرحات عامل جمّال:

” لا أخالكم يا سيادة الجنرال إلا وأردتم بزيارتكم هذه أن تكونوا رسول تلك الطريقة المباركة الجديدة التي بعثت آمالا عظاما في صفوف التونسيّين على اختلاف نزعاتهم وطبقاتهم يرحّبون بمقدمكم الكريم ترحيبا حارا صريحا خالصا من جميع الأدران لا التواء فيه ولا تملّق لعلمهم أنّ جنابكم من أشدّ الناس حرصا على الخطّة الجديدة في العلاقات التونسية الفرنسية وقد قلتم – ونعم ما قلتم – لمّا اقتبلتم التشكيلة الوزارية الجديدة بالسفارة العامة.

إني من أنصار النظريّة العامة التي أقرّها الم منداس فرانس وإني سأعمل على نجاحها بكلّ ما أوتيت من قوّة في الروح والقلب إنّ مهمتنا ستكون أيسر إذا قرّرنا القضاء نهائيا على السرية بجدية والعمل في كنف الصدق والنقاوة. لقد مضى زمن المناورات السخيفة والالتباسات. ينبغي علينا جميعا أن ننظر إلى الأشياء بعين الثقة والسكينة وأن نسهر بدون ضعف على أن تبقى علاقاتنا طيبة تحدوها الصراحة الصارمة بل كدت أقول الصراحة القاسية التي تترجم فيها. وبفضل هذا المنهاج سنتقدم عبر أعمالنا. تلك كانت العبارات التالية التي اقتبلتم بها الوزارة الجديدة التي ما زال صداها يرنّ في قلوب أهل الساحل جميعا.

يا جناب الجنرال”

إنّ تلك الصراحة قد تجلّت اليوم بهذا الهتاف وهذا السرور والحبور بمقدمكم الكريم لأنّ منظورينا أدركوا في زيارتكم هذه من معان سامية ترمي إلى عصر جديد مبارك في العلاقات التونسية – الفرنسية ستكون ملؤها إن شاء الله الصراحة والثقة المتبادلة والعدالة الخالصة والتعاون المثمر.

لذا يا جناب الجنرال نكرّر لكم تشكراتنا القلبية عن زيارتكم ونقدّم لكم من جديد عبارات الترحيب والإكرام ونرجو من سعادتكم أن تبلغوا إلى جناب رئيس الحكومة الفرنسية الم. منداس فرانس على كامل الإجلال والاحترام تمنياتنا الخالصة حتى تكلّل أعماله بالنجاح “.

ثمّ تقدّم السيّد رشيد الميلي الأمين العام للشعبة الدستورية[i] وألقى بدوره خطابا يجده القرّاء في غير هذا المكان وقد أجاب المقيم بنفس المعاني التي فاه بها آنفا.

هذا وقد لاحظنا أنّ عدة لافتات قد علقت وقد كتب على البعض منها : ” تحيا فرنسا – يحيا بورقيبة – تحيا الصداقة الفرنسية- التونسية النشطة “.

ثمّ دخلت الشخصيّات إلى إدارة العمل حيث قدمت إلى جانب المقيم العام الشخصيات المحلية ونوّاب المؤسسات القومية.

ومن شرفة إدارة العمل توجّه المقيم من جديد إلى الجماهير الهاتفة قائلا: ” أشكركم ثانيا على هذه الحفاوة وأطلب منكم أن تتوجّهوا إلى المسجد حيث حان وقت الصلاة “.

ثمّ وزّعت المبرّدات على الحاضرين واستأنف الركب سيره على الساعة الثالثة والنصف قاصدا المكنين.

في المكنين:

مرّ الركب المقيمي قبل وصوله إلى المكنين ببلدة قصرهلال.

خطاب السيّد ونّاس بن عامر[ii] باسم الشعبة الدستورية بالقلعة الكبرى:

a1المناضل ونّاس بن عامر

 ” يا جناب المقيم

إنّ الشعب القلعي يقف أمامكم – ممثلا في هيئته الدستورية – ليعرب لكم عن عظيم ابتهاجه وخالص ترحيبه بجنابكم، لا بصفتكم مقيما عاما فقط ولكن باعتباركم أحد الرّسل المبشّرين بحلول عهد جديد، عهد التفهّم لأماني الشعوب.

كما ترحّب بتلك المبادئ التي صدع بها ذوو النوايا الطيّبة وعلى رأسهم الرئيس مانداس فرانس ذلك الرجل الذي أبت عليه شهامته وصدق عزيمته – إلاّ أن يعلنها دون مواربة أو التواء بين يدي ملكنا أبقاه الله في يوم مشهود سيخلّد التاريخ ذكراه.

يا جناب العميد”

إنّ كلّ تونسي ليتطلّع اليوم إلى المستقبل بعين جدّ يقظة وفي نفسه كل الرجاء في بلوغ قضيّته المقدّسة مرحلة حاسمة تنتهي بتحقيق ما يصبو إليه من عزّة وكرامة على ضوء التصميمات التي وضعها المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة….

وإنّ ما يبدو من عزم حكومة المسيو مانداس فرانس على تمكين التونسيّين من إدارة شؤونهم بأنفسهم لدليل على ما تمتاز به هاته الحكومة دون سابقاتها من نزاهة ورشد. فحلّ المشكل التونسي بهاته الطريقة هو الكفيل بضمان العدالة الدائمة بين شعبنا والعمل بإخلاص لإصلاح بلادنا.

ولتثقوا يا جناب السفير بأنّ التونسي مجبول على مقابلة الإحسان بما هو أحسن وأبقى.

وختاما نرجوكم باسم الشعب القلعي أن تتفضّلوا بقبول خالص تقديرنا لهاته الزيارة الميمونة. وأن تبلغوا أكرم تحياتنا إلى أصحاب الضمائر الحرّة من أبناء فرنسا وفي مقدمتهم رسول السلام الرئيس مانداس فرانس.

خطاب الشيخ محمّد بن عبد السلام بو قدّيدة[i] (والصحيح هو محمّد بن عبد السّلام) العدل بالقلعة الكبرى:
a2

الشيخ محمّد بن عبد السلام بو قدّيدة

” سيّدي الوزير”

إنّ زيارتكم اليوم لبلدنا قد أدخلت سرورا عميقا على قلوب جميع ساكنيه رجالا ونساء كبيرا وصغيرا. ولقد ذكرتنا فيما كنا نعهده من أنّ فرنسا لم يزل يها رجال يقدّسون مبادئ العدالة والحرّية والمساواة وأنّه يا جناب الوزير لمن الواجب علينا أن نصارحكم بأنّ البلاد التونسية أكثر من أن تتأثّر بالإحسان بأيّ شيء سواه.

ودليل ذلك هو أنّه ما إن صرّح جناب الحكومة الفرنسية بإعطاء البلاد حقّ استقلالها الذاتي حتى طفحت القلوب بالمسرّة واللسنة بالثناء على رجال فرنسا الأحرار وغسل من القلوب ما علق بها من الإحن وعمرت بالمودّة والصفاء.

وبالجملة يا جناب العميد فإنه مهما تقرّبت إلينا فرنسا شبرا بالإحسان إلاّ وتقرّبنا إليها ذراعا بالعدالة والإخلاص.

وفي الختام نطلب من فخامتكم تبليغ أمانة رأينا أن نلقيها على كاهل إحساسكم الشريف، ألا وهي تبليغ تحيّاتنا الحارّة إلى عموم الشعب الفرنسي وإلى رئيس حكومته. م. منداس فرانس وإلى رجال فرنسا الذي لم يزالوا يقدّرون ما قامت به الثورة الفرنسية التي أضاءت نورا على العالم بأسره لم تزل مآثر الأمم تسير على ضوئه. وإن تتفضّلوا أيضا بإبلاغ أجلّ تحيّات بنوتنا لجلالة ملكنا المعظّم، سيدنا ومولانا محمّد الأمين الأوّل أبقاه الله ذخرا للمرور برعاياه والسير بهم نحو ساحل النجاة والسلامة “.

طبلبة:

وعلى الساعة الرابعة والنصف غادر المركب المقيمي بلدة المكنين متوجّها نحو المهديّة فاستقبل من طرف جناب عامل المهديّة السيّد محمّد محسن وجناب المراقب المدني وذلك قبل الدخول إلى طبلبة. هذا وكان من المقرّر أن لا يتوقّف الركب بهذه البلدة إلاّ أن إلحاح الأهالي والتحضيرات التي أعدّوها حالت دون ذلك. فأجبِرَ المقيم العام على الوقوف مدّة وجيزة فصعد على المنصّة المعدّة له والتي كانت مفروشة بالزرابي ومزدانة بالأعلام. فتقدّم السيّد مصطفى مخلوف بالنيابة عن الشعبة الدستورية وألقى خطابا قيّما يجده القرّاء في غير هذا المكان.

وكانت الجماهير تهتف وتصفّق والنساء تزغرد وقد شاهدنا لافتات عديدة تعبّر عمّا كان يكنّه الشعب التونسي من تقدير لزعمائه وإخلاص للمبادئ التي كافحوا من أجلها. ثمّ أجاب المقيم العام فقال:

” لم يكن من المقرّر أن أقف بطبلبة ولكني عندما شاهدت هاته الجماهير الغفيرة لم أشأ أن أضيّع هاته الفرصة لأطلب منكم أن تعملوا معي لأنّه لا يمكن أن أعمل شيئا بمُفردي وإذا كان جميع أهالي هذا البلد فرنسيّين وتونسيّين يعملون معي لانبثق عهد جديد في العلاقات التونسيّة – الفرنسيّة وأنّه لا يفوتني أن أبلّغ إلى الحكومة الفرنسية وكذلك إلى جلالة الباي أنّ جميع أبنائه بتونس يكنّون له أسمى عواطف الإخلاص والتقدير “.

ثمّ اتجه الركب تحت عاصفة من الهتاف والتصفيق إلى المهديّة وقد استقبله أهالي البقالطة بكل حفاوة وترحيب.

خطاب نائب الشعبة الدستورية بطبلبة:

وممّا جاء في الخطاب الذي ألقاه السيّد مصطفى مخلوف باسم الشعبة الدستورية قوله: ” لقد تجرّأ أهالي هذه البلدة على إيقاف موكبكم بضعة دقائق بالرغم من أنّ برنامج رحلتكم لم يتضمّن هذا الوقوف. غير أنّهم لم يكونوا ليقدموا على هذا لو لا أنّهم أرادوا أن يعربوا عن مدى سرورهم وارتياحهم لتحقيق رغائب الشعب التونسي الشرعيّة “.

في المهديّة:

قابل أهالي المهديّة جناب المقيم العام بحفاوة كبيرة أعربوا بها عن تقديرهم للحركة التي انبثقت في العهد الجديد الذي تجتازه البلاد التونسية.

في المراقبة المدنيّة:

وصل ركب المقيم العام إلى دار المراقبة المدنية وكانت هناك جموع كبيرة أمام دار المراقبة فعلت الهتافات بحياة رجال الحرّية المجاهد الأكبر وجلالة الملك والم. منداس فرانس والمقيم العام ورجال الوزارة التونسية. وقد استقبل المقيم العام وفدا من أعيان المدينة ورجال الإدارة والمشائخ. وقام الكاهية السيّد محمّد حسن والمراقب المدني في المهديّة بتقديمهم إلى المقيم وإلى السيّد محمّد الشلايفة عضو الحجرة المختلطة للوسط خطابا قُوبل بتصفيق الاستحسان. كما ألقى الكاهية المفوّض لبلدية المهديّة خطابا لطيفا وألقى جناب الكاهية القائم بشؤون عمل المهديّة كلمة رحّب فيها بالزائر الكبير وأجاب الجنرال دي لاتور عن تلك الكلمات فحثّ على التعاون المثمر وأعرب عن ابتهاجه العظيم للاقتبالات الحارّة التي لقيها وأكّد عزمه على تحقيق ما جاء في خطاب الرئيس منداس فرانس في الاستقلال الداخلي بالبلاد التونسية ملاحظا وجوب نسيان الماضي الذي يعتبر من نوع الخصومات العائلية التي يزول أثرها واعدا بتبليغ جلالة الملك عطف وابتهاج رعاياه المخلصين.

في إدارة العمل:

وكانت ساحة إدارة العمل غاصّة بالجماهير الشعبية الكبيرة حاملة اللافتات منشدة الأناشيد الوطنية في نغم شيّق وحماس شديد وتعالت الهتافات الحادّة حين وصل ركب المقيم بحياة الزعماء والمجاهد الأكبر وجلالة الملك ورئيس الحكومة الفرنسية والمقيم العام الجديد. ودخل المقيم العام الإدارة في عاصفة من التصفيق الحادّ وهو يحيّي الجماهير في لطف وبشاشة تدلّ على الابتهاج والسرور مصحوبا بالعامل والمراقب المدني واستقبل وفد الوطنيّين وألقى الأخ محمود بن الحاج علي حمزة رئيس الشعبة الدستورية كلمة تقبّلها المقيم ببشاشة وأجاب عنها في السرعة متجها إلى تلك الخلائق الحاشدة معربا عن ارتياحه للحفاوة التي لقيها من عاصمة المهدية مجدّدا لهم عزمه على إنجاز ما جاء في خطاب رئيس الحكومة الفرنسية حاثّا على التعاون والتضامن. وقُوبل الخطاب بالتصفيق والهتافات وشقّ المقيم خضمّ الخلائق الزاخر وهو يصافح الناس عن اليمين وعن الشمال ويبتسم لهم.

خطاب السيّد محمّد الغنوشي[i] باسم الشعبة الدستورية بسوسة:

يا جناب المقيم”

باسم أهالي سوسة وباسم الشعبة الدستورية بها أتقدّم إليكم بأسمى عبارات الترحيب بمناسبة حلولكم بهذه المدينة وإنه لمن دواعي الغبطة والسرور أن يكون حلولكم بين ظهرانينا على إثر الزيارة التي قام بها الرئيس المحترم م. منداس فرانس إلى هذه البلاد بإعلان عزم حكومته إعلان استقلال تونس استقلالها الداخلي وحكمها الذاتي وبالاعتراف بأنّ السيادة ستعود إلى أهلها وذويها.

يا جناب المقيم”

إنّ أهالي سوسة ليعقدون الأمل على حسن نواياكم واستعدادكم النبيل الذ ما فتئتم… به حتى تسهّل المأمورية التي تشكّلت الوزارة الشعبية الجديدة بكامل ثقة جلالة الملك المعظّم وثقة الشعب التونسي بصفة عامة وبصفة خاصة وأنهم ليأملون أنّ القريب العاجل يكون على أيديكم.

وسنقوم بمساعدتكم على إنجاز الاتفاقيات التي تشتملها المفاوضات المقبلة والتي ستكون نتائجها إرجاع مقاليد الحكم إلى التونسيّين وحفظ حقوق الفرنسيّين وحقوق فرنسا بصفة عامة.

إنّ أنظار الأهالي موجّهة اليوم إليكم بعد انفراج الأزمة والتوتّر الذي ساد العلاقات التونسية الفرنسية آملة من جنابكم إيجاد التدابير اللازمة لإرجاع الهدوء والاطمئنان بصفة عامة في البلاد وذلك بإعلان العفو العام عن جميع المساجين والمبعدين السياسيّين وهكذا يعمّ الفرح والسرور والسلم.
خطاب السيّد محسن نويرة باسم الشعبة الدستورية بالمنستير :

يا جناب المقيم”

إنّ سكان المنستير بأجمعهم يحيّون جنابكم ويرحبّون بك تركيبا. إنّ هاته المدينة الصغيرة التي هي دائما في مقدمة جميع التطوّرات تعرف كيف تعلن عن عطفها وتعرف عندما تقتضي الحالة ذلك الاحتفال بالرجال الذين تختارهم وتَصْطَفِيهم، وقد اختفت بكم اليوم مدينتنا بدون ما ضغط، بل من تلقاء نفسها. ذلك أنّ الوضعية الحالية تسمح لها بالخروج عن تحفظها المعتاد.

إنّ الحكومة التي يترأسها الم. منداس فرانس قد تمكّنت في آخر الأمر بفضل نشاط رئيسها وتبصّره وموضوعيته من فرض إرادة فرنسا بجنيف والذود عن سمعتها. وقد حقّقت هاته الحكومة السلم بالهند الصينية واختارت سلوك سياسة جريئة بتونس ثمّ أنّها أقلعت عن سياسة الماضي التي خابت وتردّدها الخطير فعلي يفصلها صوت المنطق السليم وسحقت قوّات الشرّ و الاثم.

لقد أحيا إعلان حكومة الجمهورية التي تمثلونها لاستقلال تونس الداخلي آمالا واسعة. غير أنّ مهمّة صعبة تنتظر المتفاوضين ونحن واثقون من أنهم سيقومون بها أحسن قيام ذلك أنّ المسألة في جوهرها أنها هي مسألة حسن إرادة وهو أمر موجود لحسن الحظ لدى الجانبين.

هذا ونحن نعتقد يا جناب المقيم أنّ العمل الذي سينجز قريبا سيعود بالنفع على تونس وفرنسا معا وسيضمن المصالح الحقيقية لجميع السكان ويمكّن من بعث الصداقة التونسية الفرنسية من جديد ويتحقّق بالفعل استقلالنا الداخلي.

غير أنه يبقى يا جناب المقيم العام أن يصدر في أقرب وقت قرار بالعفو العام وبدء المصالحة على هذه الأمّة.

 خطاب السيّد محمّد القروي[ii] قاضي سوسة:

يا سعادة الجنرال

أحيّيكم تحيّة الودّ والاحترام وأرحّب بمقدمكم الكريم لطرفنا وأهنيكم من صميم الفؤاد، أصالة عن نفسي ونيابة عن السكان التونسيّين بجهتنا بالرتبة العسكرية السامية التي ارتقيتم إليها أخيرا عن جدارة واستحقاق. كما أشفع تلك التهنئة بتهنئتكم بالمنصب المدني السامي الذي أسند إليكم لكفاءتكم، ألا وهو منصب السفير المقيم العام بتونس. وإنّ ذلك لدليل قاطع وبرهان ساطع على ما تتوسمه الحكومة الفرنسية في جنابكم السامي من حسن الإدارة وكامل الكفاءة وتمام الإخلاص والمقدرة على القيام بالمأمورية الدقيقة المنوطة والموصلة لتجديد العلاقات بين تونس وفرنسا على أسس جديدة متينة، أي على أسس الحكم الذاتي والاستقلال الداخلي لتونس تلك الأسس التي قدّم تصميمها ورسمها وشرحها شرحا واضحا صريحا لا شبهة فيه ولا إشكال جناب رئيس الحكومة بيار منداس فرانس في خطابه التاريخي العظيم الذي ألقاه في آخر الشهر الماضي بقصر قرطاج العامر لدى مولانا الملك الجليل أبقاه الله.

وإني أحقّق لجنابكم يا سعادة الجنرال المقيم العام أنّ الموقف الذي اتخذه حضرة رئيس الحكومة الفرنسية والخطاب المتحدّث عنه الذي فاه به في ذلك الموقف قد أثّرا في التونسيّين تأثيرا عظيما وتركا في نفوسهم أثرا طيبا قضى على الحيرة والاضطراب بين عشيّة وضحاها وأطلق ألسنتهم بالثناء عليه والإعجاب بعبقريّته وبنبوغه السياسي وحنكته وخبرته بالأمور وحكمته وإنصافه في معالجة المشاكل العويصة ويرون فيه الرجل الفذّ الذي يقدّر بما من الله عليه من كمالات وبإعانة تلك النخبة من الوزراء اللامعين أن ينقذ فرنسا والممالك التابعة لها من المساوي والعيوب والرزايا ويمحو الآثار السيئة التي تركها الماضي وذهب كأمس الدابر غير مأسوف عليه.

وإنّ جناب رئيس الحكومة بذلك الموقف الجليل قد عالج المريض فوقّع على الدواء الناجع ومسكه بكلتا يديه وطمأن الأفكار وهدأ الأعصاب. ونأمل أن يتمّ الاتفاق في القريب ليتمّ البرء ويحصل الشفاء ويعيش العنصران على الصفاء والوفاء.

وإننا بهذه المناسبة السعيدة نرجو من سيادتكم أن ترفعوا لجناب الرئيس بيار منداس فرانس أخلص عبارات تقديرنا واحترامنا وإكرامنا لشخصه المبجّل مع اعترافنا له بالفضل والجميل كما نصارحكم كما هي عادتنا في الصراحة أنّ التونسيّين قد ابتهجوا أيّما ابتهاج بتلكم العبارات اللطيفة التي افضيتم بها عند استقبال وزارتنا الجديدة بالسفارة العامة والتي تدلّ بمنطوقها ومفهومها على حسن الاستعداد وتمام الصدق والإخلاص في تنفيذ البرنامج المؤدي إلى الاستقلال الداخلي فنسجّل لجنابكم بلسان الشكر والامتنان ذلك الموقف الشريف ونتمنى أن تتبعه مواقف أخرى في العفو والصفح والإفراج تقضي على العهد القديم وتمحو الماضي الأليم وتنفرج بها بقيّة الأزمات كما نتمنى أن تكون إعانة سعادة سفير فرنسا مبذولة لحكومتنا الشعبية الجديدة التي لنا الثقة التامة في رجالها العظام المختارين وأن تكون تلك الإعانة مستمرّة متواصلة حتى يتسنى لوزرائنا إتمام مأموريتها التفاوضية بنجاح تامّ على أحسن الوجوه وفي أسرع الأوقات.

وختاما ندعو لسيدنا ومولانا ملك البلاد المعظّم بدوام العزّ وطول البقاء ولفرنسا وتونس بالرفاه والرخاء.

في الشابّة:

وصل ركب المقيم العام إلى الشابة فاستقبل استقبالا حارا وألقى رئيس الشعبة الدستورية خطابا رحّب فيه بالمقيم مستبشرا بالعهد الجديد أجاب عنه المقيم العام بشكر أهالي الشابة بحسن استقبالهم وحفاوتهم مكرّرا لهم على المضيّ قدما في تحقيق الاستقلال الداخلي بفضل التعاون والوداد. وقد قوبلت كلماته بالاستحسان والهتافات بحياة الزعيم بورقيبة وجلالة الملك المعظّم والشعب الفرنسي والجنرال بواي دي لاتور.

هذا وقد استقبل المقيم العام في الشابة من طرف المراقب المدني بصفاقس.

في جبنيانة:

وفي جبنيانة استقبل أيضا بحفاوة بالغة وتعالت بمقدمه الهتافات. وفي إدارة العمل وقع تقديم الأعيان والمشايخ إلى جنابه من طرف السيّد الكاهية كما ألقى السيّد عاشور الزناتي خطابا باسم الشعبة الدستورية وألقى خطابا وحيّا المقيم العام الجماهير بكلمات لطيفة أعرب فيها عن شكره لهم وثقته في المستقبل التونسي الفرنسي. ثمّ غادر الركب المقيمي جبنيانة مشيعا بالهتافات والتقدير.

 (انتهى).

Share This:

ابراهيم بن احمد العكروت: فقيد الحركة الوطنية ومقاوم للاستعمار الفرنسي

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا

تَبْدِيلًا. صدق الله العظيم

ابراهيم بن احمد العكروت: فقيد الحركة الوطنية ومقاوم للاستعمار الفرنسي%d8%a7%d8%a8%d8%b1%d8%a7%d9%87%d9%8a%d9%85

مقاوم من الرعيل الأول ومناضل في سبيل عزة تونس وكرامتها

مختصر لحياته ونضاله

المولد والنشاة

 -ابراهيم بن احمد بن الحاج محمد العكروت

-ولد ابراهيم العكروت بالقلعة الكبرى في 14ماي1929 بمنزل العائلة الكائن ب”السبط” .

الام :عزيزة بلحاج

– زوجته منانة بنت العربي العكروت

– ابناؤه: محمد فتحي ونيبل  وحبيب

بناته:فتحية  وروضة وفاطمة وشادية

متابعة قراءة ابراهيم بن احمد العكروت: فقيد الحركة الوطنية ومقاوم للاستعمار الفرنسي

Share This:

د ياسين عوني (محافظ شرطة أوّل ومكوّن بمدرسة الشرطة بسوسة)

 r5

الوضع الأمني بالقلعة الكبرى في خريف سنة 1934

قراءة لوثيقة تاريخيّة

 

مقدمــــــة:

منذ سنة 1881 أرست السلطات الفرنسيّة بتونس نظاما إداريا فريدا يختلف عن نظام الاستعمار المباشر. ولئن حكمت عدّة ظروف دوليّة آنذاك في جنوح فرنسا إلى هذا النظام بالذات، فإنّها سرعان ما طوّرته بعد اتفاقية المرسى المبرمة في 08 جوان 1883 بين المقيم العام الفرنسي بتونس، “بول كمبون” وعلي باي (1882-1902)، إلى حكم مباشر، تمّت فيه مراعاة بعض مظاهر الاستقلاليّة، خاصة في المسائل التي تمسّ مباشرة السكّان التونسيّين، مثل الشعائر الدينيّة والعدل والأوقاف والأمن…، فيما أخضعت سائر القطاعات الأخرى للإدارة الفرنسية دون سواها.

وقد أكّدت المصادر التاريخيّة والوثائق الأرشيفيّة، أنّ سلطات الحماية تعمّدت في البداية عدم المساس من أشكال السلطة الممارسة على السكّان، حيث ظلّت تستند إلى نفس الهياكل الأهليّة القائمة قبل الحماية بنفس أساليب الإخضاع تقريبا. لذلك سعت إلى المحافظة على هيكلة النظام التقّليدي مع السيطرة على دواليب الدولة مركزيّا وجهويّا، وذلك بفعل إرساء نظام مزدوج تَقَاسَمَ فيه السلطة كل من المقيم العام والكاتب العام للحكومة.

ومن هذا المنطلق حافظت إدارة الحماية على السلطة التنفيذيّة المحليّة الأهليّة القائمة، بل سعت إلى تدعيمها للحفاظ على الأمن بالإيّالة، اعتمادا على نفس أساليب السّلطة الممارسة على الأهالي. فالقائد أو العامل هو الممثّل الوحيد للسّلطة المركزيّة للقيادات بالإيّالة التونسيّة وتبعا لذلك فهو يتمتّع بنفوذ واسع في الجهات التي يديرها، وكان المسؤول الأوّل على استتباب الأمن بمجال مرجع نظره، يساعده في مهامّه “خْلِيفَة” يختاره بنفسه لنيابته عند الضّرورة. كما يساعده أيضا كواهي (جمع كاهية) ومشايخ التراب (جمع شيخ)، يشرف كلّ منهم على مدينة أو قرية أو حارة أو “دوّار” أو فريق…

ومنذ إحداث فرنسا لإدارة الأمن العام بالإيّالة التونسية في 17 أفريل1897 أصبحت هذه الإدارة تشرف على مراكز الشرطة في كامل أنحاء البلاد. وكانت صلاحيّات رجل الأمن أو حافظ الأمن العام التابع لجهاز الشرطة الإدارية واسعة ولا حدّ لها. فحيثما وجد فهو يمثّل سلطة القانون والدولة الحامية، خاصّة إذا كان حاملا للزّيّ النّظامي. وهو كذلك مطالب بفرض النّظام وحفظ الأمن حيثما حلّ وفي كلّ الأوقات والتدخّل كلما اقتضى الأمر ذلك: عند حصول معركة أو شِجَارٍ أو حادث مرور أو مشاحنة بين تاجر وحريف أو ملاحقة منحرف أو متّهم أو مشتبه فيه أو إلقاء القبض على مفتّش عنه أو رفع المخالفات…، وغيرها من المهام.

وإضافة إلى هياكل إدارة الأمن كالتفقدية ورؤساء المناطق…، اضطلعت السلطتين المحلية والجهوية بدور مراقبة أعوان الأمن ورفع تقارير حول الحالة الأمنية بالجهة وخاصة حول تجاوزات الأعوان وتقصيرهم في أداء الواجب…، عن قصد أو عن غير قصد. وكان يحتفظ بأرشيف هذه الإدارة بنظير وأحيانا أكثر من جميع التقارير والمراسلات الواردة على إدارة الأمن من كامل أنحاء المملكة أو الصادرة عنها. وعلى إثر تونسة هذه الإدارة وسائر الإدارات العمومية الفرنسية في مطلع الاستقلال، تمّ ترحيل معظم أرشيفاتها إلى مؤسّسة الأرشيف الوطني.

وفي هذا الإطار تتنزّل الوثيقة الأرشيفية التي نتولى دراستها في هذه الورقة.

متابعة قراءة د ياسين عوني (محافظ شرطة أوّل ومكوّن بمدرسة الشرطة بسوسة)

Share This:

مساهمة ” هرّاب” عسكرالقلعة الكبرى في مقاومة الغزو الفرنسي سنة 1881(الباي ساسي نموذجا) : الأستاذ ابراهيم بلقاسم

sans-titre

عندما شرع حسين باي في انشاء جيش نظامي كلف شاكير بتجنيد اولى الفيالق في مناطق الساحل و القيروان. و لكن التونسيين عامة لم يتحمسوا لهذا المشروع اذ افقد فلاحتهم و صناعاتهم الكثير من اليد العاملة فضلا من عدم تعودهم على ذلك. كما ان ظروف الاقامة في الثكنات كانت قاسية خاصة و ان الخدمة لم تكن محددة بزمن. لذلك كانت حالات الهروب و الاحتماء بالاولياء عديدة.

      إلا ان هذه الظاهرة اتخذت بعدا جديدا ابان الغزو الفرنسي في افريل من سنة 1881.  لم يعد الهروب من الثكنات و التخلف عن الخدمة العسكرية حالات فردية بل شمل مجموعات كبيرة. و لم يعد حركة تلقائية املتها ظروف نفسية و مادية بل تحول الى حركة اكتست طابعا سياسيا ارتبطت و ثيق الارتباط بالاحتلال الفرنسي. برز من خلالها بصفة خاصة ” هرّاب عساكر ” القلعة الكبرى.

    عندما خرج الجنود في محلة الباي كانوا يعتقدون انهم ذاهبين لمقاومة الفرنسيين. و لكنهم اصيبوا بخيبة امل كبيرة و شعروا بالعار لما كان ” الفراصيص يفتنوا   في اخوتنا المسلمين ثلاثة ايام واحنا نتفرجو بعينين[1]. و لمّا عادوا الى الثكنة بتونس كانوا ينتظرون تسريحهم. إلا انه فرض عليهم تولي الحراسة. و باتوا يتعرضون الى ابشع انواع الاهانات من الفرنسيين[2] . كما كان اصحاب الدكاكين من التونسيين يشتمونهم و يبصقون’ عليهم عندما يمرون من الثكنة الحسينية الى باب بحر. و في آخر هذه الرسالة عبروا عن رفضهم للعودة لمحلّه الباي و ختموها بالقول ” مانرجعو الا ميتين ان شاء الله في الجهاد”  [3]

     كما أن آخرين لم يغادروا الثكنة و لكنهم  كانوا من المحرضين على الهروب مثل القايمقام على بومعيزة  من القلعة الكبرى[4]    الذي كان  “يقول لهم أنتم رجال او اشراف تصبروا على هذه الحالة من الذل و الهوان و البلاد بيعت فالى متى صابرين. لم تزالوا قاعدين. هل انتم تريدون عمرانها[5]

    هكذا إذن تضافرت عديد العوامل و بالخصوص خيانة الباي الذي باع البلاد للفرنسيين لتزداد أعداد الهاربين من الجيش بأسلحتهم و المتخلفين الذين رفضوا الالتحاق بثكناتهم. و كون هؤلاء الجنود أربع مجموعات:

  • مجموعة الحاج علي بن خديجة التي ضمّت 300 من الجنود و50 من الأهالي.
  • مجموعة سعد بن حسين قم الملقب بباي بنّان التي ضمت مائتين من الجنود المتخلفين من مختلف قرى و مدن قيادة المنستير
  • مجموعة أولاد البحري المتكونة من مائتي جندي من قصور الساف و ضواحيها.
  • مجموعة الامباشي ساسي سويلم الملقب بباي القلعة الكبرى[6] المتكونة من 143 من الجنود الفارين و 39 من اهالي القلعة الكبرى[7].

     تتألف  قيادة هذه المجموعة من جنود و ضباط أمثال اليوزباشي أحمد عمار و الملازم علي بن عائشة و عمر بن ضريوة و عمر و نيس و بالخصوص الامباشي ساسي سويلم و مبروك بن منصور بن المبروك و غيرهم[8] .

            عندما عادوا الى بلدانهم تصدى لهم الخلفاوات و المشايخ و الاعيان و منعوهم من دخول البلاد[9] فتجمعوا في الحقول المجاورة و في ضيعات الزيتون.

      حاول المكلف باعمال الساحل، القايد محمد البكوش شق صفوفهم و ذلك بالسماح لهم بدخول بلدانهم عسى أن يتفرق شملهم و سعى ايضا إلى استمالتهم بطلب “الشفاعة” لهم من الباي[10] .  لئن أثمرت هذه المحاولات مع البعض من عساكر قرى الساحل الآخرى فإن جنود القلعة الكبرى كانوا أكثر الرافضين بل كانوا قادة التمرد إلى جانب عساكر جمال و حمام سوسة[11]

    اتهم المقيم العام الفرنسي تيودور روسطان (Théodore Roustan) خليفة القلعة الكبرى محمد الشتيوي بالتعاون مع المتمردين فعزله و عوضه بالقايمقام عبد القادر بن خليفة[12].  و لكن هذا التعيين زاد من غضب المتمردين بعد أن بلغتهم أخبار بأن الخليفة الجديد يضمر شرا لساسي سويلم و يريد قتله[13] . .أجبر محمد البكوش على إعادة الخليفة السابق إلى منصبه دون أن يحول  ذلك من تحول ساسي سويلم من قائد لمجموعة من الجنود الهاربين من الخدمة العسكرية  إلى القائد  الفعلي  لمدينة القلعة الكبرى.

      كانت هذه المجموعة مثل غيرها من المجموعات الأخرى تسعى للحصول على السلاح و البارود. فانتدبت لذلك من بينها عناصر تولوا عملية التجسس و الاستخبار[14]على تحرك الخلفاوات و المشايخ والأعيان الذين انحازوا بالكامل إلى صف السلطة و صف الفرنسيين و كانوا يعملون على إقناع الجنود بالعودة إلى الثكنات و التخلي عن أهدافهم مثلما فعل قاضي سوسة مع جنود القلعة الكبرى[15] .وكان المتمردون يهاجمونهم لمنعهم  من إيصال الجنود الذين قبلوا بالعودة إلى العمل و يقطعون عنهم الطريق[16]

       باءت إذن جميع  محاولات القايد و أعوانه لإرجاع الهدوء إلى منطقة الساحل بالفشل  خاصة و أنّ القوة العسكرية كانت تعوزهم.  ذلك أن وجق سوسة كان مكوّنا من أفراد جاؤوا من عروش جلاص والسواسي و المثاليث[17]. وهي عروش في حالة من المقاومة ضد التدخل الفرنسي.

     دفع عدم الاستقرار وانعدام الأمن بعض الأهالي إلى مطالبة القايد محمد البكوش بتمكينهم من السلاح حتى يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم من خطر غارات القبائل عليهم[18] .و لكنه رفض الاستجابة لمطالبهم واكتفى  بالسلاح الذي وزعه على قريتي  مساكن و زرمدين، خوفا من وقوعه في يد الجنود المتمردين أو القبائل الثائرة[19].

     التنسيق مع القبائل

    غداة الهجوم على خليفة القلعة (16 أوت 1881) دخل ساسي سويلم على رأس مجموعته القلعة الكبرى على قرع الطبول رافضين نصائح الخليفة و الأعيان و المشايخ[20]. لقد تحولت القلعة الكبرى إلى ما يشبه القاعدة لهؤلاء الجنود المتمردين جلبت إليها عساكر القرى الأخرى[21] .

      إثر ذلك توجه قدر مائتين منهم إلى قبائل جلاص و أولاد سعيد و المثاليث و السواسي من أجل التنسيق معهم للهجوم على القرى و المدن التي وجّهت عساكرها و ضد المتعاونين مع الباي و مع الاستعمار[22] .و جلبوا بعض الفرسان و نصبوا لهم خياما[23] .  و شرعوا أيضا في الاتصال بالقرى المجاورة و توحيد المواقف. الأمر الذي جعل محمد البكوش يؤكد في رسالة بعث بها إلى الوزير الأكبر مصطفى بن اسماعيل بتاريخ 10 أوت 1881 إن ” الذي تبين الآن أن عسكر أهل القلعة الكبرى أناس غلاظ لا يفيد فيهم مجرد القول و لا ينفع معهم الآن إلا استعمال القوة لقهرهم”[24] ..

      كما بعث قايد أولاد ايدير حسين المسعى إلى أهالي القلعة الكبرى طالبا من أعيانها الوقوف إلى جانب القبائل الثائرة و من العسكر الالتحاق  بالمقاومة[25]..

      كانت هذه المجموعات و بالخصوص مجموعة القلعة الكبرى مدركة لأهمية خط التلغراف الذي يربط بين المنستير و  سوسة و تونس. لذلك بادروا بعمليات لتخريبه حتى أن قايد أولاد سعيد بلواعر رفض توفير الحماية للمتفقد المكلف بإصلاحه[26].

       في هذه الأثناء كان جيش  العقيد كريار (Corréard) منذ 23 أوت 1881 يتقدم باتجاه مدينة الحمامات لاحتلالها يوم 26 أوت. في المقابل شرعت قبائل أولاد سعيد و جلاص و السواسي في حشد قواتها البالغة ما بين 7000-12000 رجلا و في التجمع بهنشير الخلي شمال النفيضة .

     دارت المعركة الأولى في بير حفيظ يوم 26 أوت 1881 و نجحت خلالها القبائل في دحر الجيش الفرنسي إلى منطقة الأربعين على بعد 40 كلم من العاصمة في مدخل الخنقة.

    عندما وصلت أخبار معركة بير حفيظ إلى جهة الساحل و أن المقاومة قد نجحت في التصدي لجيش الغزاة أخذ ساسي سويلم و من معه من العسكر و الأهالي في الاستعداد للالتحاق بجبهة القتال. اختلفت المصادر في تقدير عدد المقاتلين الذين تنقلوا من القلعة الكبرى إلى منطقة الوطن القبلي. و تراوحت التقديرات بين 182 مقاتلا حسب مؤلف كتاب الحملة العسكرية بتونس[27] و 300 حسب جريدة لاجوستيس. [28](La justice).

      سافرت هذه المجموعة من القلعة الكبرى يوم 27 أوت صباحا و وصلت إلى منطقة الاربعين في 28 أوت مساء. و بذلك قطعت مسافة تزيد عن 80 كلم. و رغم التعب و الاعياء فإنها شاركت بصفة فعالة في المعركة التي دارت في الليلة الفاصلة بين 28 و 29 أوت.

        بدأت المعركة في منتصف الليل بهجوم مفاجئ لفرسان جلاص على القوات الفرنسية التي كانت في حالة استرخاء. و لكنها ردت بوابل من الرصاص دون أن تؤثر في المقاومين ” لأننا ”   كنا في موقع آمن[29], مثلما  يقول أحد رفاق ساسي سويلم الذي كان من الجرحى. ثم أصدر ساسي سويلم أوامره إلى مجموعته للتقدم باتجاه العدو قريبا من الجيش الفرنسي. إلا أنه أصيب برصاصة في رأسه واستشهد في هذه المعركة مع أربعة آخرين بينما بلغ عدد الجرحى التسعة[30]..

       لكن الجيش الفرنسي رد على أعقابه و أجبر على التراجع في حين كانت القبائل تلاحقه إلى حدود حمام الأنف.

      يقول مؤلف كتاب الحملة على تونس ” لقد أبلت مجموعة القلعة الكبرى البلاء الحسن و إن قائدها ساسي سويلم قد استشهد بشجاعة في ميدان المعركة”  [31]

     بعد معركة الاربعين عادت المجموعة إلى القلعة الكبرى مصممة على الثأر لشهدائها. فاختاروا مبروك بن منصور المبروك قائدا جديدا[32].

      قصف القلعة الكبرى

           عادت المجموعة إلى القلعة الكبرى لدفن شهدائها و مداواة جرحاها. و لكنها مالبثت أن التحمت من جديد مع مقاتلي قبائل أولاد سعيد و جلاص و السواسي و عزموا جميعا للعودة إلى الجبهة للتصدي إلى جيش الجنرال صباتييه (Sabattier) في منطقة زغوان. دارت معركة أولى قرب جبل الرصاص يوم 16 شوال استولت فيها المقاومة على مدفع و اجبرت الفرنسيين على الفرار. كما هاجم الثوار  هنشير محمد البكوش و استولوا على جميع ما فيه من الأبقار و الأغنام و الماعز[33]  و حاولوا جرّ محلّة الباي  إلى مواقفهم مهددين بمهاجمتها في حال رفضت الانضمام إليهم في محاربة الفرنسيين[34]. و خرّبوا حنايا زغوان في ثلاثة مواضع في الليلة الفاصلة بين 11 و 12 سبتمبر[35].

         مع عودة هذه المجموعة اشتدت مخاوف العامل محمد البكوش و كل الحلفاوات و المشايخ والأعيان خصوصا و أنهم كانوا عاجزين على وضع حدّ لهذه المقاومة إذ “إلى الآن لم تظهر من طرف الدولة قوة ترد عهم [36]“. و كانوا يخشون إن لم ير الأهالي ” ما يردع المفسدين… إن يضطرهم الحال لاعتقاد تلك الأراجيف و الانضمام إليهم و ينتشر الفساد[37]” .

     لقد تحولت القلعة الكبرى إلى معقل حقيقي للمتمردين وجب التخلص منه حتى لا يتحول إلى مثال يحتذي لكل القرى الآخرى. لذلك اقترح محمد البكوش إرسال سفينة حربية فرنسية لقصف القرية فهي “لا تبعد عن البحر أكثر من أربع أميال[38]” .

في غرة سبتمبر 1881 أرست سفينة حربية فرنسية بقيادة المقدم مولان(Moulin)  في ميناء سوسة  . فاستقبله محمد البكوش و أعضاء المجلس الشرعي و الأعيان و الخليفة و المشايخ و رحبوا بنزول الجيش للمدنية ( الوثيقة 178). و لما استقر بالثكنة طرح عليه محمد البكوش وضع القلعة الكبرى الذي أرّقه كثيرا. و ابدى القائد الفرنسي استعداده للتحرك ضدها إن لزم الأمر[39].

كان قدوم الفرنسيين متشجعا لأعوان الباي لاستعمال القوة مع الجنود و إرغامهم على تسليم أنفسهم. و لكن محاولة شيخ قرية حمام سوسة باءت بالفشل و أصيب بجروح في مناوشة مع المتمردين. كما هرع عسكر القلعة الكبرى و البعض من أفراد القبائل لمحاصرتها[40].

عندما سمعت القبائل بنزول الجيش الفرنسي بسوسة  بعث الشاوش سليمانبن  عبيد السعيدي برسائل يتوعد فيها قرى و مدن الساحل بالحرب بل وصلت أعداد وافرة من أولاد سعيد إلى القلعة الكبرى[41]. متناسية أحقادها و خلافاتها ألقديمة متوحد ة في مواجهة عدو الوطن.

اتفق القايد  محمد البكوش مع قائد القوات الفرنسية على مراسلة القلعة الكبرى وحمّام سوسة ،القرى المتمرّدة، لإنذارهما بتسليم الجنود  الهاربين و تجريدهما  من السلاح. فعقد سكان القلعة الكبرى اجتماعا بالجامع الأعظم حضره الجنود و عامة الناس واتفقوا على رفض هذا الطلب. فأمهلهم العامل إلى الغد و توعدهم بقصف القرية. فكان التحام الخليفة و المشايخ و الأعيان بالمتمردين من العسكر و العامة و رفض تام للتهديدات[42].

و في ذلك الوقت كان الجنود الهاربين العائدين إلى قرى مثل بنبلة و بنّان و قصيبة المديوني و بوحجر ولمطة و صيادة و بالخصوص جمّال يباشرون تجميع الأسلحة تحت قيادة سعد قم البنّاني و علي بن خديجة الجمّالي[43].  ثم تحولوا إلى القلعة الكبرى و معهم جماعات من السواسي و المثاليث[44].

لقد أصبح من البيّن إذن أن القلعة الكبرى قد تحولت إلى ما يشبه القاعدة لحركة المقاومة في الساحل،جلبت إليها القبائل الثائرة و أصبح جنودها رأس حربة هذه الحركة. لقد كان العامل محمد البكوش معتقدا أنه ” إذا قدم عسكر القلعة الكبرى تنحل عزائم “هرّاب” جمال و من تبعهم و تتمهّد الراحة[45]“. لذلك عزم على الاستنجاد  بالقوة الفرنسية لكسر شوكتهم. و أعطى مولان الأوامر للمدرعة ليلة 14 سبتمبر للتحول إلى الجهة الجوفية من سوسة أمام واد إبان و أطلقت حوالي خمسة عشرة قذيفة تسببت في عدة حرائق. لكن سكان القلعة الكبرى غادروا القرية رافضين الإمتثال لأوامر الباي[46].  و بدا القايد متخوفا من التحامهم بعساكر جمّال و بلدان قيادة المنستير مثل المكنين و قصر هلال و بني حسان و بنّان وقصور الساف ” الذين جاهروا بالعصيان[47]

و في الغد توجه الأمير ألاي الفرنسي على رأس كتيبه من الجيش مجهزة بمدفع باتجاه القلعة الكبرى. فاعترضه جمع من المقاومين يقدر بـ 400 رجلا من أولاد سعيد و جلاص و أهالي من القلعة الكبرى يقودهم مبروك بن منصور بن المبروك. دامت المعركة قرابة نصف ساعة سقط خلالها ثمان شهداء خمسة منهم من القلعة الكبرى[48]. و واصل الجيش الفرنسي طريقه نحو حمام سوسة و أكودة و القلعة الكبرى التي وجدها فارغة من السكان.

       أرهبت هذه العمليات ضد القلعة الكبرى سكان العديد من قرى الساحل التي خضعت لمطالب القايد مثل مساكن و بني كلثوم و بني ربيع و البرجين و الكنايس و القصيبة و الزاوية و الساحلين و الوردانين و

[1]  الأرشيف الوطني التونسي، الصندوق 38، الملف 443 مكرر، الوثيقة 133

[2]  المصدر ذاته

[3]  المصدر ذاته، الوثيقة 212

[4]  المصدر ذاته، الوثيقة 228

[5]  المصدر نفسه، الوثيقة 132

[6] Le Temps n° 7437, 2-9-1881

[7] L’expédition militaire en Tunisie 1881-1882, éd. Ch. Lavauzelle, Paris 1898, p.62

[8]  الأرشيف الوطني التونسي، الصندوق 38، الملف 443 مكرر، الوثيقة 212

[9]  المصدر ذاته، الوثيقة 117

[10]  المصدر ذاته

[11]  المصدر ذاته، الوثيقة 132

[12]  المصدر ذاته، الوثيقة 157

[13]  المصدر ذاته، الوثيقة 159

[14]  المصدر ذاته، الوثيقة

[15]  المصدر ذاته، الوثيقة 146

[16]  المصدر ذاته، الوثيقة 136

[17]  المصدر ذاته، الوثيقة 123

[18]  المصدر ذاته، وثيقة غير مرقمة

[19]  المصدر ذاته، الوثيقة 189

[20]–  المصدر ذاته ، الوثيقة 161

[21]  المصدر ذاته، الوثيقة 189

[22]  المصدر ذاته، الوثيقة 171

[23]  المصدر ذاته، الوثيقة 146

[24]  المصدر ذاته

[25]  المصدر ذاته، الوثيقة 165

[26]  المصدر ذاته، الوثيقة 149

[27] L’expédition militaire en Tunisie 1881-1882

[28] La Justice, n° 585, 1-9 1881

[29] Martin(J) :1993, Histoire de la Tunisie contemporaine de Ferry à Bourguiba, 1881-1956, Paris, l’Harmattan, p.45

[30]   الأرشيف الوطني التونسي، الصندوق 38، الملف 443 مكرر، الوثيقة 166

[31] L’expédition, op.cit., p.207

[32] Idem, p.214

[33]  المصدر ذاته، الصندوق 178، الملف 968، الوثيقة 62.

[34]  المصدر ذاته ، الوثيقة 64.

[35]  المحجوبي(علي): 1986، انتصاب الحماية على تونس، تونس، دار سراس للنشر،

[36]  الأرشيف الوطني التونسي، الصندوق 38، الملف 443 مكرر، الوثيقة 171

[37]  المصدر ذاته

[38]  المصدر ذاته

[39]  المصدر ذاته

[40]  المصدر ذاته، الوثيقة 174

[41]  المصدر ذاته، الوثيقة 175

[42]  المصدر ذاته، الوثيقة 181

[43]  المصدر ذاته، الوثيقة 189

[44]  المصدر ذاته، الوثيقة 192

[45]  المصدر ذاته، الوثيقة 189

[46]  المصدر ذاته، الوثيقة 184

[47]  المصدر ذاته

[48]  المصدر ذاته، الوثيقة 187

Share This:

ملامح المجتمع القلعي قبل ثورة علي بن غذاهم : الاستاذ صالح المثلوثي

صالح

الكلمة التي نتناولها في البحث في هذه الدراسة هي الفترة الممتدة تاريخيا من سنة 1861 إلى سنة 1863 أي على أبواب ثورة علي بن غذاهم. و تمتد جغرافيا لتشمل 3 ايالات: ايالة سوسة، المنستير و المهدية مع التركيز بصفة خاصة على القلعة الكبرى. و هذه الدراسة تعتمد أساسا على وثائق محاكم الجنايات، هذه الفترة ذات أهمية كبرى في تاريخ البلاد عامة و الساحل بصفة خاصة، اتسمت هذه الحقبة الزمنية باحتداد التغلغل الاقتصادي الأوروبي بالساحل، اتسمت كذلك باشتداد وطأة السياسة الجبائية التي كان يسلكها الباي اتجاه رعاياه، كما اتسمت بتفاقم المديونية لدى كل شرائح المجتمع التونسي و الساحلي بصفة خاصة إلى حد أنها أصبحت سمة بارزة في مختلف الأنشطة الاقتصادية بالايالة و بالساحل. هذه العوامل أفرزت تناقضات عميقة بين مختلف الأطراف الاقتصادية كما أنتجت تحولات اجتماعية هامة أبرزها إفلاس و تفقير شرائح كبيرة من المالكين بالساحل مقابل إثراء المرابين و التجار الأوروبيين إثراء فاحشا و في مدة قصيرة.

“Livourne”

التناقضات كانت أولا بين المالكين الذين كانوا يلجئون إلى الاقتراض سواء لمواجهة الموسم الفلاحي أو لدفع الضرائب أو لتسديد الديون. كان المرابون يحتكرون سوق تجارة الزيت و يتحكمون في الأسعار نتيجة لعلاقاتهم الخارجية، هؤلاء المرابين كانوا يتكونون أساسا من اليهود سواء ان كان وسطاء بشركات أجنبية تجارية و مالية أو كانوا يعملون لحسابهم الخاص، و اليهود نوعان: هنالك يهود محليون من الجالية اليهودية التونسية أو يهود أجانب و خاصة منهم اليهود المعروفين “بالقران” نسبة إلى مدينة                   الإيطالية التي حلّوا بها بعد طردهم من إسبانيا ثمّ هاجروا إلى ايالة تونسية و تعاطوا التجارة و أصبح لهم سوق خاص بهم تسمى سوق القرانة.

لا بدّ من الإشارة إلى النشاط الرِّبوِي لم يكن يتعاطاه اليهود فحسب بل المسلمون أيضا و ذلك رغم التحريم الديني، و قد تحدّث لنا البارحة أحد المحاضرين عن عائلة سلامة بالقلعة الكبرى التي اكتسبت ثروة كبيرة و نجد أحد أفراد هذه العائلة من كبار المرابين حيث نجده في كثير من القضايا المعروضة على محكمة جناية سوسة.

النشاط الرّبوي كان يمارسه اليهود و أيضا نواب قناصل الدول الأجنبية الذين كانوا يتعاطون التجارة و المضاربة و يتعاطون أيضا القروض الربوية، نذكر على سبيل المثال نائب القنصل الأنقليزي بسوسة أقرض جماعة من أعيان القلعة الكبرى، نائب القنصل اليوناني تعامل بنفس الطريقة و كذلك فعل نائب قنصل الولايات المتحدة الأمريكية.

و كانت الديون الربوية دائما موثقة بحجة عدلية تقام لدى عدول الإشهاد، و كانت الديون الربوية مضمونة بِرهن و هذه الديون مختلفة، فهناك ديون قليلة القيمة و هناك ديون ترتفع إلى آلاف الريالات. و أشير أيضا إلى أن ضعاف الحال من اليهود كانوا هم أيضا فريسة للممارسات الربوية، نذكر على سبيل المثال تداين أحد اليهود من سكان مدينة المكنين في 240 ريال و رهنه كسوة بيته كضمان لسداد هذا الدين.

كلما كان الدين مرتفعا كان الرّهن هامّا في شكل عقارات منازل أو ضيعات زيتون، و مآل الدّين عند العجز عن تسديده كان البيع(بيع العقارات المرهونة) و كذلك الجبر بالسجن و أحيانا الاثنين مع بعضهما، مثل قضية أحد سكان سوسة الذي وقع سجنه لدين اتخذه و رهن ممتلكاته، بالإضافة إلى الديون الربوية كانت المنطقة تشهد مديونية كبيرة بدون أن تكون ربوية. التجار كان يثقل كاهلهم بديون كثيرة متنوعة و هناك ديون صغيرة لتأجير الأرض لفلاحتها، لتأجير الدّكاكين، لتأجير قهوة يقع استغلالها و ديون تجار الجملة، و هناك ديون لمتطلبات العيش و للمناسبات كالدين الّذي تخلّد بذمّة امرأة من سكان مدينة سوسة و ذلك لإقامة حفل زفاف و شراء مجوهرات لهذه المناسبة، و لا ننسى أيضا الديون التي تخلدت بذمة أهالي سوسة لخلاص الضرائب.

في ضلّ هذه المديونية الكبيرة سواء أن كانت ربوية أو عادية و في ضلّ التظاهر الاقتصادي كان من الطبيعي أن تفرز هذه الأوضاع تظاهرة اجتماعية على جميع المستويات و ذلك لتفشي ظاهرة الإجرام و انعدام الأمن و انتشار العنف بجميع أنواعه و كذلك تصدّع أركان العائلة و الانحطاط الأخلاقي.

أول مضار الإجرام تتمثل في السرقة و السرقة تنقسم إلى عدّة أنواع: سرقات تعتمد الحيلة و الخداع و الذكاء كالتّحيّل و خيانة المؤتمن و الغش في الموازين و المكاييل و هناك سرقات تعتمد على القوّة و العنف كقطع الطريق و الاستيلاء على الأملاك بقوة؛ بالنسبة للصنف الأول نجد كثيرا من القضايا التي تتعلّق بالغش في الموازين و المكاييل، فهناك قضايا غش في ثمن اللّحم، قضايا غش في المكاييل… أمّا بالنّسبة للقضايا التي تعتمد التحيّل بين أطراف جمع بينهم العمل المشترك في ميدان التجارة مثلا. لنا مثلا على ذلك في القضية 130 التي كانا طرفا صفاقسي و مساكني يستغلاّن مؤسسة صناعية فاستولى أحد الاثنين و هو المساكني على رأس المال و المرابيح و اختفى.

و من السرقات التي نجدها معروضة بكثرة على محكمة الجنايات سرقة وثائق الراهن و الدّيْن و الحجج العدلية الموثقة لهذه الدّيون سواء بالخداع أو بالقوّة. و نجد الطّرافة في القضية عدد 757 التي قام فيها المدين بافتكاك وثيقة الدين و أكلها.

إلى جانب قضايا التحيّل نجد السرقات من المنازل كسرقة الأدباش و المصوغ و كذلك سرقة المواد الغذائية، نذكر السرقة التي تعرض إليها اليزباشي محمّد بن عايشة من القلعة الكبرى من ضيعة كانت له في سيدي بو علي حيث سرقت له كمية من الفول والكسكسي. و أحيانا تسرق المرطبات مثل القضية التي قام بها أحد سكّان مدينة سوسة متّهما أحد سكّان الحمّام بسرقة خبز حلوة بالجلجلان تزن 18 رطلا.

و لكن نصيب الأسد في السرقة كانت تحتلّه سرقة الماشية بجميع أنواعها من بقر و غنم أو من حيوانات الجرّ مثل الجمل و الحمير و ذلك إمّا للاستغلال أو للبيع. سرقة الماشية كانت تنتهي أحيانا بالعثور عليها من طرف أخصّائيين كانوا يقومون باقتفاء الأثر و هؤلاء لهم باع و ذراع حيث يستطيعون تتبّع الأثر حتّى في مناطق حجريّة. و نذكر كمثال على هذا سرقة حصان من مدينة تونس و وقع اكتشافه في مدينة القلعة الكبرى. و السرقة قد يقع استرجاعها عن طريق البشارة و البشارة هي مؤسّسة اجتماعية قائمة الذّات معترف بها عند الجميع حتّى السّلط تعتبرها شرعيّة و تقام حجج عدليّة في مبلغ البشارة و في بنودها لاسترجاع المسروق. و لكن البشارة تنتهي دائما في صالح المتضرّر من السرقة، فكثيرا ما يقع استرجاع جزء فقط من المسروق و أحيانا يقع التحيل.

و السرقة ليست دائما فرديّة بل في كثير من الأحيان تكون جماعية، و قد شهدت الفترة التي نتحدث عنها تكوّن عصابات عديدة لقطع الطرق و سلب المارّة و تعنيفهم و ذلك نتيجة لانعدام الأمن و تفشّي الفقر و غياب الدّولة.

Share This:

الاستاذ احمد الباهي :نشاة القلعة الكبري

 

القلعة الكبرى

الأستاذ أحمد الباهي

 

إن التعمق في تحليل موقع القلعة الكبرى ومحيطها ، يشير الى عدة ركائز و ميزات مكنت المدينة من استقطاب الجهة بدون منازع و أمنت نموا عمرانيا و معماريا متواصلين عبر القرون التي مرت بها نشأة المدينة و تجذرها و تطورها .

من العوامل والميزات التاريخية في نشأتها نشير إلى :

_ موقع شاهق منيع يؤمن الاستقرار والراحة .

_ محيط جغرافي شاسع يحد بالبحر شرقا ، و مشارف الوطن القبلي قبل نشأة النفيضة شمالا ، و الفحص و مشارف القيروان  غربا و حيث يلتقي فضاء القلعة الكبرى بفضاء مدينة مساكن التي تعد توأمة القلعة الكبرى.

_ نشاط فلاحي متنوع و انتاج وافر يتلاءم مع السهول المجاورة ، مما يتطلب تأمينه و تسويقه في مركز عمراني آمن ومنيع و قريب من موقع الاستهلاك و التصدير المتمثل في المركز العمراني سوسة القديمة.

و اذا اعتمدنا هذه المقاربة في تركيز و نشأة القلعة الكبرى ، التي انطلقت منذ أكثر من أربعة قرون مضت (بناء الجامع الكبير منذ أكثر من ثلاثة قرون يمكننا التدرج في قراءة تاريخية للمراحل المعمارية والحضرية والحضارية لمركز القلعة الكبرى وذلك اعتمادا على التراث و الذاكرة الشعبية ).

 

مراحل نشأة المدينة:

ما قبل الاستعمار:

من المرجح أن نشأة القلعة الكبرى انطلقت بعد خمسة قرون (القرن العاشرالهجري) من استقطاب سوسة لكل الفضاء الساحلي و أصبحت قطب مجتمعيا يتميز بالترابط و التعامل و تبادل الخيرات و الانتاج من داخل البلاد و خارجها .

و بضرورة تأمين الامدادات المعيشية ، أمنت سوسة أحوازها وساعدت على بعث مراكز متقدمة للمراقبة و الانذار ثم للاعمار في أحواز سوسة ، و هذه المراكز تتمثل في شبه محصنات على قمم الهضاب المجاورة لسوسة ، و نذكر في هذا الموضوع القلعة الكبرى – القلعة الصغرى – تكرونة – أكودة …

كما أنه و على ضوء الحفريات التي سبقت عمليات تهذيب القلعة الكبرى ، نذكر أن المرتفع المعروف بالقصر الكبير هو نقطة الانطلاق في تركيز مدينة القلعة ، نقطة مرتفعة مؤهلة للمراقبة و الانذار . و كذلك وجود المكونات التقليدية في انتصاب المعمار و العمران وهي الأولياء الصالحين سيدي زايد و سيدي خديم الله و بهم مقابر و مسجد صلاة (و هو مركز ديني حسب التمشي التقليدي في تجميع العمران و مصلي المنطقة)، و من المؤكد كذلك سوق أسبوعية للتجمع و تبادل الانتاج . وكان المعمار في البداية له صورة تقليدية تتمثل في حفر الكهوف و الدهاليز للاستيطان و حفظ الانتاج . و تواصل هذا الاستيطان و المعمار على الهضاب المجاورة للمدينة ثم ترابط البناء ببعضه ، و أصبحت القلعة الكبرى مركزا عمرانيا و ركيزة في تحصين شمال سوسة و مدخلها من جهة تونس العاصمة . و تمكن الأهالي بحذقهم و مهارتهم من التحكم في الانحدارات و التضاريس و مواصلة المعمار بالحجارة و التربة و الأحطاب و كذلك حفر الدهاليز و المطمور لخزن الحبوب.

في عهد الاستعمار:  

لم يطرأ تغيير في طريقة تنامي مدينة القلعة الكبرى ، حيث تواصل المعمار بصفة تقليدية و لفائدة العائلة المتعددة الأسر . هذا باستثناء أربعة مكونات هامة .

_ تطور القلعة الكبرى من منتج زيتون الى منتج زيت بتحويل الزيتون في معاصر تقليدية ثم تقنية “الصاري” بالمعاصر .

_بداية استتعمال و دمج البناء بالحديد المصنع (   ).

_ امتداد السكة الحديدية و تركيز محطة قطار .

_ ارتقاء القلعة الكبرى الى مكانة بلدية سنة 1921 و ادارتها ترجع الى القائد ( الأمر بتاريخ 29 ديسمبر 1934 حول البلديات ) مع الاشارة أن هذا التنظيم طرأ بعد الحرب العالمية الأولى و بعد الدفعة الأولى من البلديات سنة 1884 لمدن مراكز الولايات.

_ رغم تعدد التشريعات العامة في تنظيم سير المعمار في البلديات لم يطرأ شيئ على طريقة التوسع المعماري و عيش المواطنين بالمدينة الى حد  انتهاء الحرب العالمية الثانية و وضع المستعمر برامج في اعادة البناء في فرنسا و مستعمراتها المتضررة.

بعد أن رجع السكان اليهود الذين احتضنتهم و أمنتهم القلعة الكبرى الى مقراتهم بسوسة و بالمنستير و المهدية . برزت بالقلعة الكبرى بعض مظاهر التحضر في سياق تعصير الحياة بسوسة و اعادة البناء من جراء الحرب، و تتمثل المظاهر في التنوير و الماء الصالح للشراب و المساعدة على بعث مؤسسات عمومية ( تعليم بالمكتب الفرنسي العربي – المستوصف) و تطوير وتحويل الانتاج و خزنه و تسويقه . كما أن مظاهر التحضربالقلعة برزت في الثقافة و العلم و الاقتصاد و ذلك بالروابط التي نسجت مع العاصمة (جامع الزيتونة) والقيروان والشمال الغربي ( زيت و حبوب و ماشية).

حقبة الاستقلال:

التنظيم الاداري و الترابي

على اثر الاستقلال تم اعادة هيكلة التنظيم الاداري و الترابي لمنطقة القلعة الكبرى حيث :

1_ تعيين معتمد خلفا للكاهية رشيد المرابط.

2_ تحديد الفضاء الترابي لمعتمدية القلعة في حدود البحر شرقا و النفيضة شمالا ( انفصل النشاط الفلاحي للقلعة من النفيضة ) و القلعة الصغرى غربا .

3_ تفعيل التشريع البلدي بتركيز مؤسسة بلدية منفصلة على المعتمدية

عمليات التحضر و الارتقاء بالمدينة : العشرينية الأولىI

مع الاستقلال انخرمت المنضومة الاقتصادية المرتكزة على الفلاحة بسبب صعوبة تسويق الانتاج و تقلص النشاط بانفصال القلعة على شمالها و غربها ( النفيضة و السبيخة و الفحص) . و اضطر السكان الى سد رمق العيش بالنشاط في الحظائر الريفية و الحضرية ، و بذلك يعثر و يتدنى النمو المعماري للمدينة بكثافة تقسيم المنازل القديمة ذات الملكية المشتركة ، وتدني المشهد الخصوصي و الحضاري للمدينة .

الا أن تفعيل المشاريع و التراتيب البلدية وفرت تحسينات في ظروف العيش.

_ التراتيب الصحية : في أوائل الستينات ، تم ربط الطرق الرئيسية بقنوات المياه المستعملة . و تزامن هذا النشاط بتنفيذ عمليات عمرانية منظمة عن طريق السلط العمومية و تدخل في نطاق (التعمير التداركي …)

_ تركيز مركزية اقتصادية و اجتماعية و ادارية في السوق و منطقة البطحة بعد اخلائها من مقبرة سيدي خديم الله .

_ بعث منطقة عمرانية بالحي الجديد.

_ دراسة و وضع مثال تهيئة عمرانية في اعادة هيكلة المدينة و استشراف توسعها.

تعثرالنمو المعماري من جديد في أواخر الستينات و تدنت ظروف المتساكنين من جراء النظام التعاضدي  الذي عمق انفصال القلعة عن محيطها الاقتصادي التقليدي ومن ادارة ممتلكاتهم .

كما أن المدينة لم تشهد انتقالة معمارية نوعية لعدم انتفاعها بالحوافز المعلنة في الارتقاء بالمسكن (منحة المسكن – صندوق تحسين المسكن) مقابل ثورة معمارية شهدتها مثيلاتها : القلعة الصغرى – مساكن – قصر هلال و غيرها . و المعروف أن هذا الوضع يرجع الى أسباب مجتمعية و سياسية و عقارية.

  متابعة قراءة الاستاذ احمد الباهي :نشاة القلعة الكبري

Share This:

التعليم الزيتوني في تونس بين هيمنة الفرنكفونية وإثبات الهوية: إعداد الدكتور: حمودة بن مصباح

التعليم الزيتوني في تونس بين هيمنة الفرنكفونية وإثبات الهوية

إعداد الدكتور: حمودة بن مصباح

أستاذ باحث بمركز الدراسات الإسلامية بالقيروان

مدخـــــــل :

التعليم الزيتوني هو نظام التعليم الإسلامي الذي كان قائما في جامع الزيتونة وفروعه في تونس قبل اتخاذ الحكومة التونسية قرار إلغائه 1954.

وانطلاقا من الدور الذي كان يؤديه التعليم الزيتوني في مقابل التعليم الفرنسي، من حيث تأصيل الناشئة وتربيتهم على التمسك بهويتهم العربية الإسلامية وتثبيت روح الإيمان في نفوسهم، استشعر الاستعمار خطورة هذا التعليم ومكانة مدرسيه وعلمائه فسعى إلى تغييب دوره وإخماد صوته سواء بالقوة أو بصياغة برامج تستجيب لرغباته كمحاولة لتأبيد بقائه. وبعد مضي أكثر من ستين سنة على خروج المستعمر ظل جامع الزيتونة والتعليم الزيتوني يراوح مكانه تهيمن عليه التجاذبات التي يطغى عليها الطابع السياسي.

متابعة قراءة التعليم الزيتوني في تونس بين هيمنة الفرنكفونية وإثبات الهوية: إعداد الدكتور: حمودة بن مصباح

Share This:

مدينة القلعة الكبرى : تقديم عام

 

مقتطف من الكتاب الذي أصدرته جمعية علوم وتراث في ندوتها الأولى   

 couverture A4 (3)

 

الاسماء القديمة للمدينة:

 المنعة. قلعة الز عارنة اللواتية.والقلعة الكبرى.. Itakouda  . Gurza

الفترة الرومانية.

تعود جذور مدينة القلعة الكبرى الى الفترة الرومانية القديمة .

وأول ظهور للقلعة الكبرى في النقائش 12 قبل الميلاد وتعرف باسم ” كيرزا” وتكوّ نت هذه المدينة من عديد المعالم مثل المسرح والمعبد والمقبرة الرومانية والفسيفساء. وجزء كبير من هذه الاثار نجده الى اليوم  في عمادة الكرارية بمعتمدية القلعة الكبرى . اذ نجد اثارا حجرية وفسيفساء وهندسة مدينة كاملة المعالم .

متابعة قراءة مدينة القلعة الكبرى : تقديم عام

Share This: